4 عصور لم تنقذ منزل «عبدالناصر» فى «بنى مر» من الإهمال
واجهة منزل الراحل جمال عبدالناصر
كانت اللوحات الزرقاء الأنيقة المنتشرة فى شوارع قرية «بنى مر» تشير إلى طريق المنزل وتنبئ بأن هناك أثراً عظيماً للزعيم والرئيس الراحل تضمه جنبات تلك القرية الفقيرة التى ما زال بعض بناياتها بالطوب اللبن، من شارع كبير إلى طريق أضيق ثم زقاق صغير ينتهى بممر لا يكفى لعبور رجلين، وفى نهايته بوابة خشبية متهالكة، لمنزل واجهته مهدمة، تطل من داخلها القمامة، وروث الحيوانات، هنا كانت تقطن عائلة الزعيم جمال عبدالناصر، الرئيس الأسبق لمصر، وقائد ثورتها ضد الملكية.
هذا المنزل قطنه حسين عبدالناصر، والد جمال، قبل أن يرحل إلى الإسكندرية ويتركه لشقيقه «عطية حسين»، وعاشت فيه عائلة عبدالناصر عقوداً قبل أن يصل إلى تلك الحالة المزرية، مر عليه أربعة عصور لرؤساء حكموا مصر، من السادات إلى السيسى، وكان لكل منهم موقفه تجاه المنزل. «على عطية»، ابن عم الرئيس الراحل، يعيش فى منزله القريب من بوابة البلدة، جلس بجلبابه الأنيق ولهجته الصعيدية، وبزهو شديد، يحمل على كتفيه شرف العائلة وعزوتها بالرئيس، يقول: «السادات ريّح أهله وطوّر قريته ميت أبوالكوم بالمنوفية، لكن بلدنا وبيتنا هنا حد يتخيل إنها بلد رئيس جمهورية؟!».
«السادات» نقل تبعيته للدولة ورممه ليكون مزاراً.. والوحدة المحلية اهتمت بنظافته فى عهد «مبارك».. وتدهورت حالته وتهدمت عوارضه فى عصر «مرسى».. و«حسين»: وضعه المزرى ليس وليد اللحظة ولكن نتيجة إهمال عقود متعاقبة
فى عهد جمال عبدالناصر، كان يعيش «على» ووالده «عطية» وتسعة أشقاء آخرين فى ذلك المنزل الفقير الذى لم يكن به ماء ولا كهرباء، ولم يكن يقدر على تطويره، أو الانتقال لمنزل أرحب وأوسع يسع العائلة الكبيرة، ويليق بمنزل عم رئيس الجمهورية بسبب ضيق ذات اليد، ولهذا توجه الرجل الفقير -حسب رواية نجله- إلى رئاسة الجمهورية بعدما وضع نصب عينيه قطعة أرض ملك للدولة لبناء منزل جديد لعائلة الرئيس. محملاً بآمال أن يغير عبدالناصر أمره فى غمضة عين من حال إلى حال، توجه الرجل بخطوات مثقلة بأحلام المنزل الجديد، والتقى الرئيس الراحل، وطلب منه بناء المنزل الجديد على تلك الأرض المملوكة للدولة حسبما يروى «على»، ابتسم ناصر ورد عليه: «يا عم عطية، أنا لا أملك سهماً من مال الدولة، وهل تقبل يا عم عطية أن أسرق من مال الدولة وأبنى لك بيت، ينفع يا عم عطية أنزّل ابن الباشا من قصره عشان الدولة ويقولوا أعطى لعمه قصر يعيش فيه؟!» تلك كانت رواية «عطية» التى قصّها على أولاده، من بينهم «على»، بعدما عاد خائب الأمل، وأخذ الرئيس منه هذا الطلب المكتوب، وكتب عليه بخط يده «يُحفظ»، وتم إدراجه ضمن أوراق عبدالناصر السرية.
ستة شهور مرت وتوفى عبدالناصر، وانقلبت الدنيا رأساً على عقب، ذهب الرجل وذكراه بقيت، وبكاء ونحيب المحبين عليه ظل لشهور، ولكن عمه وأشقاءه كان لهم مآرب أخرى، توجهوا لمنزله بالقاهرة، كانوا ينتظرون أن يترك لهم ميراثاً ينفعهم ويرفع شأنهم، تلقّفهم «خالد» الابن الأكبر لعبدالناصر واصطحبهم نحو غرفته وفتح دولابه وقال: «ده ميراث أبويا.. ده اللى سابه لنا أبويا»، ولم يكن فى الدولاب سوى بدلتين شتويتين وبدلتين للصيف ومتعلقات شخصية». بعدما استقر الأمر للسادات، ودانت له الرئاسة، بدأ يبحث بين أوراق عبدالناصر السرية، وجد ورقتين، الأولى الطلب المحفوظ لبناء منزل جديد للعائلة، وأخرى وصل أمانة وقّع عليه عبدالناصر على نفسه بـ200 جنيه مصرى لخزينة الدولة تُخصم من راتبه، أعطاها لعمه عطية لكى يستطيع شراء بقرة يكسب من ورائها قوت يومه، ولكن كان ذلك الأمر دافعاً للرئيس السادات للقاء عم عبدالناصر وزيارة بيت العائلة.
1970 وصل القطار المقبل من القاهرة صباحاً إلى أسيوط وعلى متنه الرئيس السادات، دخل منزل عائلة عبدالناصر الذى سبق أن استضاف أعضاء مجلس قيادة ثورة يوليو، لم يكن «على» بلغ عامه الحادى عشر من عمره، شاهد قيادات الدولة كلها تتجول فى دوار العائلة، وجلسوا فى تلك الغرفة المهدمة والمهملة والمعبأة الآن بأكوام من القمامة وروث الحيوانات، وقال السادات لوالده: «أنا يا عم عطية مطرح عبدالناصر، ومش هسيبك تعيش العيشة دى»، وأمر السادات ببناء منزل جديد لعائلة عبدالناصر، ونقل تبعية ذلك المنزل للدولة وأمر بترميمه ليكون مزاراً لمحبى الرئيس الراحل. تسلمت محافظة أسيوط المنزل، وبدأت فى ترميمه وطلائه وتزيينه، وتزاحمت الوفود من محبى عبدالناصر لزيارة منزل العائلة، ومع كثرة الزيارات بدأت الدولة تضع حداً لذلك بوضع إجراءات وتصاريح للزائرين تبدأ من أمن الدولة وتنتهى عند الوحدة المحلية التى ترافق أى زائر خلال زيارة المنزل.
«على»: بعد نشر تقرير عن المنزل فى إحدى الصحف دبت حركة الترميم من جديد ثم عاد الوضع إلى سابق عهده من الإهمال وانتشرت الشروخ فى الجدران
كان وضع المنزل فى عهد السادات لا بأس به، بعد الطلاء والرتوش والفراشة، وتم الحفاظ قدر الإمكان على هيئته الأولى دون تعديل، غير أن كثرة الإجراءات وصرامتها قللت من زواره، ولكن رحل السادات فى حادث المنصة، وبدأ المنزل يتعرض للتصدع والإهمال فى عهد الرئيس الجديد حسنى مبارك، حتى جاءت صحفية من جريدة حزب التجمع لزيارة المنزل، وصورته والشروخ تسرى فى جدرانه، تحت عنوان «بداية تساقط جدران منزل الزعيم»، وذلك حسب رواية «على». مرت 48 ساعة على نشر التقرير فى الصحيفة، وفوجئت أسرة عبدالناصر بوقوف محمد سميح، محافظ أسيوط، على باب المنزل، ومن خلفه طابور من المرممين وعربات الرمل والطوب وعمال إنشاءات، ودبت حركة الترميم فى المنزل من جديد، انتهت عملية الترميم وعاد للمنزل جزء من بهائه، وعُيّن عليه عامل من الوحدة المحلية للاهتمام بنظافته، ومقابلة الزائرين الذين يتوافدون من حين لآخر على القرية قبل أن يدخل المنزل مجدداً فى طىّ النسيان. يجلس الرجل ويروى قصة المنزل وحوله عدد من أبناء عائلة الرئيس الراحل، منهم من بدت عليه علامات الفقر ومنهم من بدا عليه أنه ميسور الحال، يحكى الرجل وهم يهزون رؤوسهم، فالرجل الذى فوّضته العائلة بعد أن توفى عم الرئيس الأخير طه، دائماً هو من يتحدث باسمهم.
جاءت ثورة 25 يناير، ووصل الإخوان و«مرسى» لسدة الحكم، وأظهروا من اليوم الأول كراهيتهم لعبدالناصر وعهده، حسب قول «على»، و«لأن المسئولين فى بلدنا ماشيين بمبدأ اللى يتجوز أمى أقوله يا عمى»، وكانت أولى الخطوات سحب عامل الوحدة المحلية من المنزل، وبدأ حال المنزل يسوء بعد أن عادت الشروخ لجدرانه من جديد، وبدأت بعض عوارضه تتهدم، وتكالب عليه بعض جيرانه، واتسعت فيه الشروخ، وتم هدم المنازل من حوله، وبناء بنايات بالخرسانة محلها، وظل المنزل تسوء حالته يوماً بعد الآخر وتتدهور حالته. عام مر وذهب الإخوان وجاء الرئيس عبدالفتاح السيسى، قال: «يا رب أكون زى عبدالناصر. كان شخصية عظيمة وكان يحب مصر»، وبنى له متحفاً فى القاهرة باسمه يضم مقتنياته، ولكن استمر منزل «بنى مر» على حاله.
فى مكتب تستقر عليه صورة الرئيس عبدالناصر بالأبيض والأسود يجلس صلاح حسين، رئيس الوحدة المحلية بقرية بنى مر، يقول لـ«الوطن» إن وضع المنزل ليس وليد اللحظة، ولكن نتيجة إهمال عقود متعاقبة.
أثار الشروخ والإهمال لمنزل «عبدالناصر»
المنزل من الداخل
على عطية
إشارات تشير إلى منزل الزعيم