بلد أبو صلاح| "أبو سيف".. أسطورة صنعتها الصدفة
المخرج صلاح أبو سيف
"استطاع أن يواجه الأفلام اللاواقعية التي تنتجها السينما بأفلام ذات مضمون شعبي وإنساني، اشتراكي، وأصبح بذلك سندًا ومحرضًا وممهدًا للسينما المصرية التقدمية".. كلمات أثنت بها الناقدة السينمائية الألمانية إيريك ريشتر على إسهامات ذلك المخرج المصري الذي صنع لنفسه مدرسة كان هو الناظر الأول لها، غير أن الكثيرين من عشاق فنه ربما لا يتخيلون أن الصدفة كانت حاضرة بقوة في رحلته الإبداعية في معظم مراحلها، فالظروف الصعبة التي عاشها، طفلا، كانت سببًا في واقعيته الصارمة، ومقابلة عابرة ساقها له القدر، شابًا، كانت كفيلة بتغيير مجرى حياته، لتصبح حياة صلاح أبو سيف، بمثابة أسطورة صنعتها المصادفة.
لم تكن السينما في نظر الطفل "صلاح أبو سيف"، الذي لم يكد يكمل عامه العاشر، سوى مجموعة الممثلين الذين يظهرون على شاشتها ليجسدوا قصة الفيلم لمشاهديهم، غير أن كتابًا صغيرًا وقع في يده جعله يكتشف ملمحًا آخر في السينما يتمثل في الإخراج السينمائي وفنونه وأدواته، ومنذ لحظتها اعتزم الطفل الصغير أن يكون مخرجًا سينمائيًا.
الحلم ظل مراودًا لـ"أبو سيف"، الذي تخرج من مدرسة التجارة الإعدادية، وقفزته الأقدار إلى مدينة المحلة الكبرى حيث العمل بشركة النسيج هناك، في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، ليجد عددًا من الممثلين الهواة الذين تفجرت معهم موهبته بعد أن أخرج لهم عددًا من المسرحيات القصيرة، لتقول الصدفة، في تلك اللحظة كلمتها، بحضور المخرج السينمائي نيازي مصطفى إلى شركة النسيج، لعمل فيلم تسجيلي عنها، ليفاجئ بموهبة "أبو سيف" وعشقه للسينما، فيأخذ بيده ليوقفه على ناصية حلمه.
كان من الممكن أن يبقى "أبو سيف"، طوال عمره، رئيسًا لقسم المونتاج بـ"أستوديو مصر" بعد أن قضى في تلك الوظيفة 10 سنوات من عمره، غير أن الصدفة، التي أبت أن تتركه، جمعته بالمخرج السينمائي كمال سليم الذي بدأ معه مسيرة الإخراج السينمائي كمساعد أول مخرج في فيلم "العزيمة" وهو في الرابعة والعشرين من عمره.
الطابع الكلاسيكي الرومانسي هو ما غلب على السينما المصرية في أربعينيات القرن الماضي، غير أن رحلة دراسية قضاها "صلاح أبو سيف" إلى إيطاليا كانت بوابة للون آخر من السينما، تأثر بتيار الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية وأصر على أن يخوض هذه التجربة في مصر.
"علاقتي بوالدي لم تكن طيبة على الإطلاق، وربما كان بإمكان من يتتبع أفلامي، بشكل دقيق، أن يلاحظ انعكاس ذلك على بعض شخصيات تلك الأفلام".. ربما كان ذلك الملمح الذي لفت إليه "أبو سيف"، في أحد حواراته الصحفية، سببًا آخر في تجربته الواقعية مع السينما، فالمخرج الذي توفي والده في طفولته وشهد رحلة المعاناة التي خاضتها والدته في تربيته، لابد أن يترجم كل ذلك في أفلامه التي تحدثت عن بعض المآسي الأسرية مثل "بداية ونهاية" الذي يتناول تشتت الأبناء في غياب أبيهم، وفيلم "لا أنام" الذي يعرض لحياة صعبة تعيشها الفتاة مع زوجة أبيها إذا ما رحلت أمها.
واقعية "صلاح أبو سيف" امتدت لتشمل مناحي أخرى من المجتمع المصري، فها هو فيلم "الزوجة الثانية" يتطرق للحياة الريفية التي يعاني أبناؤها من سطوة "العمدة" وتجبره، ثم تنتقل كاميرا "أبو سيف" لتصور، بدقة، مساوئ المجتمع المصري في ثلاثينيات القرن الماضي تحت حكم الاحتلال الإنجليزي، ولا تغيب الرومانسية عن واقعيته من خلال فيلم "الوسادة الخالية" الذي لفت إلى وجود وهمٍ كبير اسمه "الحب الأول" ليستحق ذلك المخرج أن يكون مدرسة مكتملة الأركان في السينما المصرية الواقعية.