لسنوات طويلة.. ظلت النخبة المصرية -عن قناعة أو تعاطف أو تغفّل أو كرهاً فى نظام الرئيس مبارك- تراهن على عبدالمنعم أبوالفتوح وتصدقه وتدلله و«تُمَكْيجُه» وتغفر له ما تقدَّم وما تأخَّر من جرائمه. كما بذلت جهداً جباراً لكشط «قشف» الإخوان «القافش» فى رئتيه وقلبه منذ سنوات الصبا، وحاولت أن تسوقه للمواطن البسيط، باعتباره -أولاً- صاحب تاريخ سياسى ونضالى مشرف، وثانياً باعتباره وجهاً «إصلاحياً» مستنيراً، وشريكاً فاعلاً -مع الراحل عمر التلمسانى- فيما يسمى «بعثاً ثانياً» لجماعة الإخوان. والحقيقة أننى لا أعرف ما الذى «يشرف» فى تاريخ «أبوالفتوح» السياسى والنضالى! فوقوفه فى وجه «السادات» أثناء لقائه بطلاب جامعة القاهرة عام 1977 لم يكن «بطولة»، بل تطاولاً وضيق أفق، إذ تحدث بدون إذن بعد أن تجاهله «السادات» أكثر من مرة، وقال إن هناك تناقضاً بين «العلم والإيمان» الذى يدعو إليه.. وبين الممارسات الفعلية للدولة. وفى حين تحدث حمدين صباحى فى اللقاء نفسه عن التزامات الدولة تجاه المواطن البسيط، وعن مسئوليتها التاريخية تجاه القضية الفلسطينية.. فإن «أبوالفتوح» كان مهموماً بمسألة إبعاد الشيخ محمد الغزالى عن وظيفته، وبلغ التطاول ذروته عندما وصف المحيطين بـ«السادات» بـ«المنافقين»، فانفجر الأخير فى وجهه وهو يصرخ: «اقف مكانك». لكن المثير للدهشة أن «السادات» نفسه هو الذى مكَّن لـ«أبوالفتوح» وجماعته بعد ذلك، واستخدمهم «كارت إرهاب» لضرب نفوذ اليسار والناصريين فى الجامعات، ورد الإسلاميون الجميل واغتالوا «السادات» فى يوم انتصاره، وبذلك دفع ثمن تواطئه مع هذا التيار الفاشى.
كان «السادات» قد اعتقل «أبوالفتوح» ضمن حملة سبتمبر الشهيرة، التى سبقت اغتياله بحوالى شهر، بسبب موقفه من «كامب ديفيد»، فيما اعتقله «مبارك» مرتين: الأولى عام 1991 لخمس سنوات، والثانية عام 2009 لعدة أشهر. وفى المرتين كان الانتماء لـ«الإخوان» تهمته الوحيدة، وبفضل تواطؤ النخبة وعمى بصيرتها وعدائها المطلق لنظام «مبارك».. اعتُبر الانتماء إلى الإخوان شرفاً وبطولة، واعتُبرت «الجماعة» نفسها «فصيلاً سياسياً وطنياً»، على الرغم من أن النخبة كانت على دراية كاملة بالملف الأسود لهذه «الجماعة»، وأنها مجرد عصابة إرهابية معادية لكل ما هو «وطنى».
ومن الواضح أن هذه النخبة «المغفلة» قد نجحت بدورها فى «استغفال» شريحة واسعة من المصريين، فبلعوا الطعم وأهدروا نحو أربعة ملايين صوت فى انتخابات 2012 الرئاسية.. ذهبت إلى رجل تبين فيما بعد أنه «انتهازى»، يعمل لحساب نفسه من دون أن يتخلى بالطبع عن عقيدته الأساسية، أى «الإخوان». لقد أبى أن يلتزم باتفاقه مع «لجنة المائة»، وباع رفيق نضاله «حمدين صباحى» لحساب السلفيين ولحساب من بقى يؤيده من الإخوان بعد إعلان انشقاقه. وظهر التافه عصام سلطان فى اليوم الأول من تصويت المرحلة الأولى.. ليعلن على فضائية «النهار» -بالمخالفة لقانون حظر الدعاية فى فترة التصويت- أن كل الذين صوَّتوا لـ«حمدين» أهدروا أصواتهم، وأن من الأفضل أن تذهب هذه الكتلة التصويتية إلى «أبوالفتوح»، استناداً إلى أن المؤشرات تؤكد تفوقه، وأنه -وحده- «مرشح الثورة»!
وخلافاً لانتهازيته، تبين أيضاً أن «أبوالفتوح» مولع بالمناصب، حتى إنه شغل ستة عشر منصباً -وفقاً لموسوعة «ويكيبيديا»- كان أولها رئاسة اتحاد طلاب طب قصر العينى. ويُلاحظ أن ثلاثة أرباع هذه المناصب يرتبط بـ«مهنة الطب».. على الرغم من أنه لم يمارس هذه المهنة يوماً واحداً فى حياته، ويلاحظ أيضاً أن معظمها يخدم أهداف «الإخوان» التوسعية، إذ كان، ولا يزال، عضواً فاعلاً أو قيادياً فى هيئات ومنظمات ذات طابع إقليمى، وأهمها، بالطبع، لجنة الإغاثة والطوارئ التى تبين أنها «جسر سياسى ولوجيستى» لدعم حركات إرهابية مثل «حماس» وغيرها.
لا أعرف: هل كان «أبوالفتوح» طالب طب متفوقاً أم بليداً؟ لكننى على يقين -ومن واقع قراءتى لشهادته على تاريخ الحركة الإسلامية فى مصر (1970 - 1984» التى أصدرها فى كتاب عام 2010 قدم له «طارق 19 مارس البشرى»، عرّاب استفتاء الجنة والنار- أنه لم يكن مهموماً خلال سنوات دراسته برسالة الطب ودوره فى خدمة الإنسانية.. بقدر ما كان مهموماً بتأكيد نقاء «العرق الإخوانى» وإعادة الروح إلى «جماعة» فاشية كانت مهددة فى ذلك الوقت بالانقراض! كنت أظن أن «الطب» من أكثر المهن سمواً وإنسانية، إذ تخلق لدى من يمارسها «حساسية» تتجاوز حساسية الفنان أو الأديب، اللذين لا تحتاج موهبتهما بالضرورة إلى «دراسة»، بعكس الطبيب الذى لا يستطيع أن يمارس مهنة الطب إلا إذا درسها. وكنت أعتقد أن الحد الأدنى لدارس الطب أن يكون لديه «ضمير»، وفى حده المعقول، تضاف «الكفاءة» إلى الضمير، والطفرة أو الاستثناء أن يكون «مبدعاً».. كونه الأقرب والأكثر إلماماً واستبطاناً لـ«معجزة الخلق»، وهناك عشرات وربما مئات الأطباء الذين فجَّرت دراستهم للطب -بصرف النظر عن ممارسته- طاقات إبداعية هائلة، إن دلت فإنما تدل على رغبة جامحة فى تجاوز الوظيفة التقليدية للطبيب -أى تشخيص الألم وعلاجه- إلى البحث فى أسرار هذه المعجزة.. وللطب أن يفخر هنا -مثالاً لا حصراً- بأسماء مبدعين مثل يوسف إدريس ومحمد المخزنجى، وقبلهما إبراهيم ناجى، وكثيرون غيرهم. أما أن تكون دراسة الطب تأسيساً لعقلية متزمتة، معادية لـ«الإبداع» بقدر ما هى مهيأة للتسليم بفكرة «السمع والطاعة»، فليس أدل عليه من حالة «أبوالفتوح» و«جماعته الإسلامية» .