السبب الرئيسى الذى دفع إلى كتابة هذه السلسلة من المقالات، ذكرناه بإيجاز فى الحلقة الأولى. والمتمثلة فى تقديرنا أن التقارير الحقوقية التى تصدر بحق الدولة المصرية، لا تجد من أجهزة عديدة رسمية وغيرها، ما يمكن أن يكون سلاحاً معرفياً مضاداً، يجهض تلك «الأسلحة الناعمة» المسماة بالتقارير الحقوقية. فهكذا يتم تعريفها اليوم فى العديد من أروقة الدول الغربية التى ترى أن إطلاقها على دولة بعينها، من الممكن أن يصيبها بخسائر تتراوح فداحتها بمقدار ما تتحلى به تلك التقارير بالحرفية، ودقة الصياغة والزخم المعلوماتى الذى يمكنه من نسج «سردية» رصينة، تدفع إلى الالتفات إليها ومن ثم تمريرها، عن منطقة بعينها أو دولة، أو قضية، وما قد يتبعها من الهوامش والملابسات.
على ذكر الأسلحة؛ فعلياً نحن أقرب إلى الوقوف فى ساحة حرب، ميدانها المرئى على الأقل هو الرأى العام العالمى، ويمتد بشبكات ودوائر مؤثّرة إلى الرأى العام الوطنى الداخلى. وكلاهما العالمى والمحلى صار اليوم ذا شأن مهم ومقدّر، لا مجال للاستهانة بقدرته على تحريك ودفع القوى الرسمية، إلى اتخاذ بعض من المواقف والقرارات السياسية، فى جانب منها تستند إلى ما تشكل فى الميدان الرحب الذى نتحدّث عنه. هذه المرجعية أصبحت حاضرة فى تحديد حجم العلاقات ما بين الدول، أو فرض العقوبات وتخفيض مستويات التعاون، بل إن منها المواقف الفارقة، مثل حظر بيع الأسلحة أو حجب التقنيات التكنولوجية.
هذا ليس مجرد إعادة تأكيد على أهمية تلك القضية فحسب، لكنها إشارة واجبة إلى ضرورة استحداث منظومة تعاطٍ مصرى شامل معها. تأخذ فى حسبانها؛ ضرورة أن يكون استعدادها وأداؤها فيه، على أرضية ذات الساحة المعلنة «الرأى العام» بشقيه، وعدم الاكتفاء بأحدهما على حساب الآخر. وأن تتسلح بداية بجدية الاهتمام، وبذل الجهد الذى سيكون منطقياً محل رصد، من خلاله يمكن تحقيق التأثير وحصد نقاط المكسب. فى هذه الحالة سيكون بمثابة تشكيل تغيير حقيقى لمعادلات القوة، ومواقع التمركز للدولة المصرية، من موقع الدفاع إلى موضع المقاتل الذى يتبنّى أسلحة شريفة، قادرة على إجهاض وتحطيم ما يتم استخدامه ضدها.
بالعودة إلى تقرير «هيومان رايتس ووتش» الأخير، كنموذج يمكن القياس عليه. من غير المتصوّر، أن يكون تقرير صادر بهذه التفصيلات والإشارات ومطعم بصور فوتوغرافية لمنازل مهدمة فعلياً، وأخرى ملتقطة بالأقمار الصناعية، ويكون الرد المصرى الرسمى وغير الرسمى، قاصراً على مجرد نفى ما جاء بالتقرير «جملة وتفصيلاً». أو وقوف الاشتباك مع محتوى التقرير عند جزئية أنه «غير مهنى» أو «مسيس»، كما يتكرّر كلا التعبيرين فى العديد من الكتابات التى تتناول محتواه.
هذا قد يكون حقاً غير متصور، لكن للأسف هذا ما يجرى فعلياً منذ سنوات، وليس مع هذا التقرير أو تلك المنظمة فحسب. حيث لم يخرج تقرير مصرى واحد من أى من جهات الاختصاص، التى لديها البيانات التفصيلية التى يمكن من خلالها الرد على كل رقم بالرقم الواقعى الصحيح، ولكل واقعة بما أحاطها وبما تستهدفه أجهزة الدولة. إن كان هذا فى ما يخص الشريط الحدودى، أو أياً من مناطق الشيخ زويد والعريش، ولكليهما لدى الدولة المصرية ما تقوله، ويفسر الكثير مما جاء بالتقرير كاتهام أو سلب حق الدولة السيادى، تجاه أمنها الذى هو فى صلبه يستهدف تحقيق الأمن لمواطنيها، فى تلك البقعة من الأرض وغيرها.
الشىء بالشىء يُذكر؛ على الجانب الآخر من المشهد كانت هناك زيارة لمحافظة شمال سيناء، جرت منذ أيام قليلة قام بها اثنان من أهم وأقرب المساعدين ومستشارى الرئاسة، المهندس إبراهيم محلب للمشروعات القومية، واللواء أحمد جمال الدين لشئون الأمن ومكافحة الإرهاب، فضلاً عن وزير التنمية المحلية والسيد المحافظ وأعضاء البرلمان، ممثلى دوائر شمال سيناء فى البرلمان.
الزيارة وقفت على جميع تفاصيل المشهد، وتلقت بشفافية كاملة كل الأسئلة التى طرحها الأهالى وقياداتهم، ليس فى المكاتب المغلقة وإنما فى جولة موسعة لهؤلاء جميعاً، فى شوارع مدينتى الشيخ زويد والعريش! وفى لقاء جماهيرى شامل أعلن المهندس إبراهيم محلب، أنه وفق مخطط الرئاسة للمشروعات القومية تم تخصيص (250 مليار جنيه) لتنمية سيناء، لتغطية مخططات البناء ومشروعات الاستثمار فيها خلال مراحل، بدأت فعلياً فى مشروعات «أنفاق الربط» أسفل قناة السويس، وشبكة المياه التى تغطى جميع احتياجات مدن الشمال ومشروعات التنمية، بتكلفة تقارب (مليار جنيه) بدأ تنفيذها فعلياً.
ما جرى بالزيارة، تضيق به المساحة رغم أهميته الاستراتيجية، لكن ما دفع لذكر هذا المختصر هو بيان حجم الفجوة الهائلة بين ما يجرى على أرض الواقع، وما يتم تداوله إعلامياً وحقوقياً إن جاز التعبير لاختزال رؤية وجهود الدولة الشاملة. ولن يسد هذه الفجوة سوى العمل على إيصال تلك الأحداث والواقع المصرى، عبر الآليات الحديثة القادرة على الاشتباك مع مثل تلك المنظمات والتقارير، وتفنيد ما جاء بها وفق اللغة العالمية، التى تستند إلى الرقم والبيان والصورة ومفردات الخطط الزمنية، حيث يمكنها أن تحاصر تلك «الأسلحة الناعمة»، بل تفقدها تأثيرها، وتجبرها حتماً على التراجع.
بالاعتماد على الباحثين المحترفين، ومتخصصى منظمات وملفات حقوق الإنسان، ومن خلال مناقشات برلمانية ستسرد بشكل معلن، الواقع والخطط المستهدفة وإطارها الزمنى، يمكننا أن نملأ الفراغ الهائل الذى تمرح فيه مثل تلك المنظمات. وهو فراغ بالمناسبة نشأ بالداخل قبل أن ينتقل إلى المستوى الدولى، وفى كليهما هناك الكثير من الواجبات والجهود المتخصّصة التى علينا القيام بها، للاستحواذ على ثقة الرأى العام الوطنى والدولى، وللوقاية من أى مخاطر محتملة قد تستجد على سبيل التداعى، الذى ربما يتسبّب فيه التهاون فى تقدير أوزان الأهمية لما هو فى صالح الوطن، حيث يبقى فى النهاية هو وحده من وراء القصد.