الفيوم.. مصر الصغرى
سواقي الفيوم
«ساقيه تغنى وست سواقى من حواليها يردوا عليها.. جنة تهنى وكل ما ألاقى الناس بتجيها أنا بفرح بيها.. جوّها صافى مفيهش غيوم.. حوّد مرة على الفيوم».. كلمات كتبها أحمد منصور لتتغنى بها المطربة عصمت عبدالعليم فى الفيلم الذى أخرجه أحمد بدرخان عام 1951 عن رواية «لقيطة» للكاتب محمد عبدالحليم عبدالله، ومنحه اسم «ليلة غرام»، وقام بتصوير بعض مشاهده فى مدينة «الفيوم»، ليحتفظ شريط السينما بصورة المدينة قبل أكثر من نصف قرن.
لكن تُرى ما حال الفيوم اليوم؟ وهل ما زالت تحتفظ بطابعها ولمحات من جمالها الغابر.. «الوطن» زارت المحافظة وتجولت فى قراها ومدنها.. هنا على بعد نحو 80 كيلومتراً من القاهرة توجد قرية «تونس» التى يعيش فيها الفلاحون بجوار الأجانب فى ألفة عجيبة.. هنا أشهر متحف «كاريكاتير» فى الشرق الأوسط.. هنا بحيرة قارون التى ظلت لسنوات طويلة مصدر رزق لأبنائها، ومن بعدها وادى الريان بشلالاته وعيونه الطبيعية ومسطحاته المائية.
التقينا بعض أهل الفيوم الذين ما زالوا يمارسون مهناً ورثوها عن الآباء والأجداد، فمنهم من يصنع الخوص ومنتجات النخيل داخل بيته المتواضع، ومنهم من يعبئ التمور ويصدرها إلى مختلف دول العالم، وآخرون ساروا على خطى أبناء قريتهم وسافروا إلى إيطاليا بحثاً عن باب رزق جديد.
فوانيس و«صوانى» وسكريات.. منتجات سيدات «الإعلام» تغزو العالم
على حصيرة متهالكة فى مدخل منزلها، جلست «أم آية»، 32 عاماً، تمسك بيدها اليمنى «المسلة» التى تشبه إبرة الحياكة، وباليسرى «سَبَت» ملوناً لم يكتمل بعد، تحكى بابتسامة تعلو وجهها الأبيض، بداية عملها الذى أتقنته فى صغرها، فمنذ نعومة أظافرها كانت ترى جدتها تجلس بالساعات تصنع «صينية» أو «سَبَت» طلبه منها أحد الزبائن، ومن حولها أدوات لم تعرف عنها سوى أشياء بسيطة، كانت تنظر إليها بشغف ودقة لتتعلم منها كيفية عمل منتجات مختلفة من الخوص، وبعد مرض «جدتها» لم تجد سبيلاً سوى العمل مكانها لتتمكن من الإنفاق على نفسها وأسرتها: «كنت بارجع من المدرسة ألاقى جدتى قاعدة بتشتغل فى الخوص، كنت فى البداية بساعدها وأجيب لها طلبات محتاجاها وبعد كده بدأت أتعلم منها، كنت أول ما أرجع من المدرسة أقعد معاها لحد ما تخلص الكمية اللى محتاجاها لحد ما خلصت الإعدادية، وأبويا قعدنى فى البيت واتخطبت، مالقتش حاجة أعملها وأقدر أكسب منها قرشين يساعدونى فى جهازى غير أنى أعمل منتجات بالنخيل وأوزعه على التجار».
تبدأ السيدة الثلاثينية عملها يومياً فى الساعة الثامنة صباحاً حتى الثالثة عصراً، ورغم الساعات الطويلة التى تقضيها فى عملها طوال اليوم، إلا أنها لا تكفى سوى لعمل قطعة واحدة فقط من منتجاتها: «الشغل اليدوى متعب واللى بيميز المنتج عن غيره الدقة لأن كله بالإيد ولو الشغل مش متقفل كويس ماحدش هيتعامل معايا، باقعد طول اليوم أعمل فى قطعة وممكن ما تخلصش فى نفس اليوم لأنى بذاكر لأولادى بجانب شغلى»، لافتة إلى أن المجهود الذى تبذله فى إنتاج هذا النوع من المنتجات تجد من يقدره، إذ يختاره البعض ليزين به منزله وخصوصاً أن ثمنه مناسب لجميع الطبقات، فضلاً عن أن الأجانب ينبهرون بتلك الصناعات ويحبذون شراءها.
«أم آية»: مالقتش حاجة أقدر أكسب منها قرشين يساعدونى غير أنى أعمل منتجات بالنخيل وأوزعها على التجار.. وبتمنّى نشارك فى معارض كتير عشان نسوَّق نفسنا فى الخارج.. والأجانب بينبهروا بمنتجاتنا.. و«أم علياء»: بنشتغل من الفجرية للمغرب.. ولو مابعتش فى يوم ماقدرش أجيب أكل لعيالى
تتذكر «أم آية» مقابلتها لمحافظ الفيوم، التى مرت عليها أشهر قليلة، وما طلبته منه حينها، متمنية أن يحقق لها أحلامها التى تقتصر على إنشاء معارض داخل الفيوم وخارجها لترويج منتجاتهم، بجانب تشجيعهم على الاستمرار فى العمل بها لتحسين دخلهم، فهى بالنسبة لها ولسيدات قريتها مصدر رزقهم الوحيد، على حد قولها. لم تكن «أم آية» وحدها التى تعمل فى صناعة الخوص، فهنا فى قرية «الإعلام» التابعة لمركز الفيوم، تجد السيدات والفتيات يعملن بمهارة وخفة ليخرجن منتجات مختلفة من الخوص، فمنهن من تفضل العمل بمفردها داخل مسكنها، وأخريات يجتمعن يومياً أمام منزل إحداهن للعمل معاً وسط تبادل الأحاديث المختلفة.
فى إحدى حارات القرية، افترشت «أم علياء» الأرض مرتدية عباءة زرقاء وخماراً أسود، وفى مقدمتها بعض الأدوات البسيطة التى تستخدمها فى صناعة منتجاتها، تنهمك فى صناعة إحدى الصوانى اليدوية، تساعدها ابنتها التى لم يتجاوز عمرها الـ8 سنوات، حيث إنها لم تكتف بعمل منتجات الخوص بلون الخوص إنما تضيف إليه ألواناً أخرى تقوم بشرائها خصيصاً من بعض التجار لتضيف لمنتجاتها لمسات جديدة.
تشرح «أم علياء» خطوات صناعة «السَبَت» الملون الذى يبدأ بوضع سعف النخيل فى ماء مغلى مضاف إليه صبغة يختلف لونها على حسب الاستخدام ما بين الأحمر والأخضر والأزرق، وتتركه ليبرد ويجف، ثم تضعه فى ماء بارد مرة أخرى قبل أن تستخدمه حتى يسهل عليها تشكيله لأنواع وأحجام مختلفة. لم تتوقع السيدة الثلاثينية أن تعلمها هذه الحرفة البسيطة فى الصغر سيفتح لها باب رزق كبير، إذ تمكنت بعد فترة من عملها، من التعاقد مع بعض التجار بالقرية لشراء منها ما تنتجه مقابل مبلغ بسيط يمكنها من الإنفاق على تعليم بناتها: «السكرية باعملها بـ15 جنيه، الطبق يبدأ من 5 جنيه لحد 100 جنيه على حسب حجمه، والزبون بياخد منى فى الطلبية مثلاً 20 طبق بيدخلوا لى مكسب، وده بالنسبة لى أحسن لأن لو ما بعتش شغل آخر النهار ماقدرش أصحى الصبح أجيب أكل لعيالى، بجانب أن كل الستات هنا بتشتغل وبتشجع بعضها».
يقطع حديثها مجىء إحدى جاراتها التى طلبت منها الانتظار قليلاً حتى تأتى لمساعدتها، حيث اعتدن بحسب كلام «أم علياء» الجلوس مع بعضهن لإنجاز أكبر عدد ممكن من المنتجات المطلوبة قبل غروب الشمس: «بنصحى الفجرية نشتغل لحد ما الشمس تغرب، ساعات بنكون 4 سيدات وأحياناً بنوصل لـ15 نشتغل مع بعض، ولو فى يوم اشتغلت لوحدى بنتى بتساعدنى»، وتشكو «أم علياء» من ارتفاع أسعار المواد التى تستخدمها، حيث ارتفع سعر «قش الأرز» من 15 جنيهاً لـ«الباليتة» إلى 35 جنيهاً، إضافة إلى السعف الذى زاد مؤخراً لـ100 بعدما كانت تشتريه بـ20 جنيهاً.
«كاملة»: علّمت بنات القرية زى ما أمى علمتنى وملكة السويد زارتنى وقضت معايا يوم كامل
فى ناحية أخرى من نواحى القرية، كانت «كاملة أحمد» أو «الحاجة كاملة» كما تحب أن يناديها جيرانها وزبائنها، واقفة أمام منزلها الريفى الذى تحطمت بعض جدرانه، فى انتظار قدوم إحدى العربات التى تنقل بضاعتها إلى القاهرة، حيث تمكنت السيدة السبعينية أن تجعل لمشغولاتها اليدوية من «الجريد» مكاناً فى الأسواق المصرية والعالمية، حيث تحكى لنا رحلتها التى بدأت وعمرها 8 سنوات، حين كانت تعمل مع والدها وجدها فى صناعة الخوص: «طلعت لقيت أجدادى شغالين فى الصنعة دى ولأنها مميزة حبتها واشتغلت فيها لحد ما اشتريت قطعة أرض وعملت معرض خاص بمنتجاتى على طريق مصر الفيوم، وكنت باعتمد على السياح فى البيع لكن حالياً بنتعامل فى أغلب الأوقات مع الزبون المصرى».
مراحل عديدة مرت بها صناعة «الخوص» بالقرية، حيث بدأت السيدات بعمل «الأسبتة» اليدوية وبيعها بمقابل مادى بسيط يحصلن عليه بحسب الكمية التى تنتجها، ثم تطورت منتجات الخوص بشكل كبير، حيث تدربت السيدات على عمل السُكريات والسخانات والصوانى مختلفة الأحجام، ومع مرور الوقت تمكنوا من إنتاج الكرسى الجريد والفوانيس وغيرها من الأشكال التى يحتاج إليها السوق، وفقاً لكلام «كاملة»، مشيرة إلى أن جميع الأدوات المستخدمة فى صناعة منتجات النخيل من خير الطبيعة، فهى تعتمد على «سعف النخيل» والأوراق الداخلية لقلب النخلة، إضافة إلى «قش الأرز» الذى تقوم بشرائه من الفلاحين بعد وقف زراعته فى الفيوم، وبعض بقايا الأقمشة الملونة فى المنزل لاستخدامها فى تزيين المنتج.
معارض عديدة شاركت فيها «كاملة» بمنتجاتها، تنوعت ما بين معارض داخلية تقام فى القاهرة والفيوم ومعارض خارجية، وخلال مشوارها الطويل فى تلك الصنعة تمكنت من الحصول على شهادات تقدير عديدة زينت بها جدران منزلها: «ملكة السويد جت زارتنى فى الفيوم وقضت معى يوم كامل، بجانب الأفواج السياحية اللى بتيجى الفيوم خصيصاً لشراء منتجاتى، وبعضهم بيطلب منى كمية كبيرة منها بابعتها له على دولته، فالحمد لله قدرت أكمل مسيرة والدى وجدى».
لم تكتف «كاملة» بصناعة الخوص وبيعه، إنما اتجهت إلى تدريب بنات قريتها فى منزلها على منتجات الخوص عقب حصولهن على الدبلوم، ليتمكن من مساعدة أنفسهن فى جوازهن: «زى ما والدتى علمتنى الصنعة، حبيت أعلم البنات حاجة تفيدهم وتساعدهم على المعيشة، وباعلمهم فى بيتى أو فى المعرض وبعد ما يشتغلوا ويعملوا منتجات باشتريها منهم وباصدرها للدول العربية والأجنبية».