«درنة» منذ منتصف التسعينات الموطن الرئيسى للجماعات المتطرفة، بسبب عزلتها الجغرافية، داخل سلسلة تلال الجبل الأخضر، ومنفذها على البحر المتوسط، «أنصار الشريعة» المرتبطة بـ«القاعدة» احتلتها إبان فوضى فبراير 2011، «داعش» اختطفتها بعد مبايعة «مجلس شورى شباب الإسلام» للبغدادى 2014، لكنها انسحبت لدعم «ولاية سرت»، قبل سقوطها، فعادت القاعدة، وحولتها إلى مركز لتصدير الإرهاب لدول المنطقة، بدعم تركيا وقطر، الجيش ضبط كميات ضخمة من الأسلحة والذخائر ممهورة بخاتم الجيشين القطرى والتركى.. الكثافة السكانية فرضت تحرير المدينة وفق خطة طويلة المدى، حاصرها الجيش لمدة عامين، لاستنزاف مخزون الذخائر والمواد التموينية، ولتحريض المدنيين على التمرد والعصيان.. دقة الغارات الجوية أضعفت البنية الأساسية للإرهاب، وأصابت قادته، الهجوم البرى بدأ فى مايو 2018، باستدراج عناصرهم إلى خارج المدينة، ما جنبها الدمار، وقلص خسائر المدنيين.
الهجوم على «الهلال النفطى» منتصف يونيو، استهدف تخفيف الضغط عن درنة، وتشتيت جهود الجيش، قاده إبراهيم الجضران، القائد السابق لحرس المنشآت، الذى سافر إلى الدوحة وإستانبول من مطار مصراتة أواخر مايو، للتنسيق مع المسئولين، وقادة الإخوان والجماعة المقاتلة وتيمان أرديمى قائد المعارضة التشادية، الهجوم تم بمشاركتهم، مع سرايا الدفاع عن بنغازى ومجلس شورى ثوار بنغازى وأجدابيا.. احتل ميناءى التصدير براس لانوف والسدرة، وأوقف العمل بالمنشآت الإنتاجية، الجيش شن عملية «الاجتياح المقدس» الخاطفة، وحرر المنطقة، وطارد المهاجمين غرب بن جواد والنوفلية وهراوة قرب سرت، وفى اتجاه قاعدة الجفرة الجوية.
حفتر سلم المنشآت النفطية لمؤسسة النفط ببنغازى، وألزمها بالاتفاقات الموقعة مع الشركات الدولية، وهى فرع لمؤسسة النفط بطرابلس، لكن الانقسام بلور كيانين مستقلين.. الجضران احتل المنطقة أواخر 2014، وجمد العمل بها، لاقتسام عائداتها!!، فحررها الجيش سبتمبر 2016، بعد أن خسرت 130 مليار دولار، وسلمها للمؤسسة الوطنية للنفط بطرابلس، التابعة لحكومة السراج لتشغيلها.. الجضران تحالف معها، وشكل «قوة تحرير الهلال النفطى»، واستعاد سيطرته عليها مارس 2017، الجيش أعاد تحريرها وتسليمها ثانية لمؤسسة طرابلس.. بعد الهجوم الأخير اعترف الجضران بتبعيته لحكومة السراج، فقرر حفتر حرمانها من عائدات النفط، تجفيفاً لمنابع الإرهاب، خاصة أنها لم تخصص ديناراً واحداً لدعم الجيش، رغم ما يواجهه من تحديات.
أداء الجيش اتسم بالكفاءة؛ رغم الحظر الدولى، لم يسحب جندياً واحداً لمواجهة هجوم «الهلال»، بل استعان بشباب القبائل المساندة، وشكل كتائب للمقاومة، ساعدت الجيش فى تحريرها، التحقوا بالخدمة تطوعاً، للدفاع عن الأسرة والقبيلة، ضد الإرهاب والفوضى، اشتروا الملابس العسكرية على نفقتهم الخاصة، والمواطنون تعاونوا لتوفير الغذاء لعناصر الكمائن العسكرية.. تلك مؤشرات بالغة الأهمية، شعب ليبيا يصنع النصر.
التنافس الغربى على النفوذ فى ليبيا على أشده، أمريكا طلبت مشاركة قواتها فى تحرير درنة!!، حفتر رفض، وطلب السراج مشاركتها فى عملية «عاصفة الوطن» ضد داعش بقطاع «بنى وليد، ترهونة، مسلاتة، الخمس، وزليتن».. مركز دراسات الشرق الأدنى بواشنطن أكد وجود قاعدة عسكرية أمريكية جنوب ليبيا، تمت إقامتها ضمن الحرب على الإرهاب.. «التايمز» نشرت «يناير 2018» أن بريطانيا تبحث المشاركة فى عملية عسكرية أوروبية ضد الإرهاب والجريمة المنظمة والمساعدة فى إعادة فرض سلطة الدولة بليبيا، والمساعدة فى وقف تدفق المهاجرين.
إيطاليا، دولة الاحتلال، وصلت طلائع قواتها لمصراتة «فبراير 2017»، ماركو مينيتى وزير الداخلية زار طرابلس «يناير 2018»، واتفق مع السراج على تفعيل اتفاقية 2008، حول مكافحة الهجرة غير الشرعية، البرلمان الإيطالى وافق على زيادة القوة الإيطالية إلى أربعمائة عسكرى بمصراتة وطرابلس، مينيتى حصل على تأكيد أمريكا «فبراير 2018»، باستعدادها لتفويض روما فى تحقيق الاستقرار بليبيا، وجوزيبه كونته رئيس الوزراء حصل على موافقة ميركل الصريحة «يونيو 2018» على تدخله فى ليبيا، روما فرضت رؤيتها على الاتحاد الأوروبى، لإقامة معسكرات لاستقبال وفرز المهاجرين خارج بلدان الاتحاد، بحيث يتم تحديد من يتم منحهم حق اللجوء، ومن يتم توطينهم بالمراكز، ومن يتم طردهم، واختارت موقعه بين غات والقطرون جنوب غرب ليبيا، الجيش رصد تحركات إيطالية بالمنطقة، لإقامة قاعدة عسكرية تضم قوات شرطة حرس الحدود والقوات الخاصة وغرفة لقيادة العمليات، وأكد نيته الرد العسكرى على أى قوات أجنبية على الأرض الليبية.
تحرير درنة يمثل إسقاطاً لمخططات الإرهاب التركى القطرى شرق ليبيا، وهزيمة للإخوان والجماعات المتطرفة المرتبطة بها، وانتصاراً للعملية «سيناء 2018» التى أحبطت محاولة تسلل 1000 سيارة دفع رباعى مجهزة ومحملة بالأسلحة والذخائر، عبر حدودنا الغربية، معظمها انطلقت من درنة.. تحرير درنة، بعد تحرير بنغازى والجفرة وصبراتة والزاوية.. إلخ، يعكس تغيراً استراتيجياً فى توازنات القوى بين حفتر والبرلمان من ناحية، فى مواجهة السراج والمجلس الاستشارى من ناحية أخرى، أهم نتائجه امتلاك الجيش زمام القوة والمبادرة، ما يطرح التساؤلات بشأن الخطوة التالية، هل سيكون توجه حفتر نحو الغرب لتطهير طرابلس العاصمة من الميليشيات، أم سيبدأ فى إعادة بناء اقتصاد الشرق الليبى وفرض الأمن والاستقرار واستعادة الخدمات وإعادة النازحين حتى يصبح الشعب الليبى فى الغرب قوة تنادى الدولة الليبية فى الشرق ضد من يستقوى بالغرب من حكامهم، وبالميليشيات والعصابات المسلحة.. وللأسف، ففى كل الأحوال، فإن كافة اتفاقات التسوية السياسية السابقة على تحرير درنة، وآخرها اتفاق باريس، لم تعد تناسب توازنات القوى الجديدة، ما يصعب احتمالات تنفيذها.
مصر استنكرت إقامة «معسكرات إيواء» للمهاجرين على أراضيها، لكن الأهم أن تؤكد رفض الوجود الأجنبى بليبيا أياً كانت مبرراته، لأنه يمثل عودة إلى عصور الاستعمار، ويخلق مبررات جديدة، لجماعات مقاومة مسلحة، تدفعنا لدائرة جهنمية أخرى من العنف.. نقدر معاناة أوروبا من المهاجرين، لكن المواجهة بدعم جهود التنمية بالدول المصدرة للهجرة، وتفعيل دور الاتحاد الأفريقى فى ضبط الأمور بالجنوب الليبى بتشكيل قوة أمنية بالتنسيق مع دول الساحل والصحراء، وبالاستعانة بالدعم الفنى والتكنولوجى من الاتحاد الأوروبى وأمريكا، هى الأفضل.. والأهم العمل على رفع حظر السلاح عن الجيش الليبى، ليتمكن من أداء دوره فى استعادة الأمن والاستقرار، لصالح الجميع.. ليبيا هى المجال الحيوى لأمننا القومى، ولا بد أن يشعر الجميع أن مصر تتحرك بشأنها بخطة متكاملة وجدية تتناسب وأهميتها.. يا أبانا الذى فى المخابرات، تلك مهمتك، وأنت القادر عليها.