(1)
كان عصر الأيديولوجيا جزءاً من عصر الحداثة.. الرأسمالية والاشتراكية معاً هما أيديولوجيتان حداثيتان، والحرب العالمية الثانية كانت بين أطرافٍ كلها تنتمى إلى الحداثة.
لقد جاءت «ما بعد الحداثة» -حسب مؤرخى الفلسفة- ضدّ عصر الأيديولوجيا والنظريات الكبرى.. ضدّ السرديات العظمى التى تزعم القدرة على امتلاك الحقيقة.. ووضع قصة فكرية كاملة.. لها بداية ولها نهاية.
المجتمع لم يعد كلياً.. ومن ثم لا يمكن للفلسفة أن تكون كليّة.. لقد أدى عصر الاستهلاك والاتصال الجماهيرى إلى نهاية عصر المجتمع وبداية عصر الجماهير.. إنها جماهير تهدف إلى الاستهلاك.. إلى الامتلاك بغضّ النظر عن الفائدة من الامتلاك.
إنَّ طغيان عصر الاتصالات وثقافة الاستهلاك بات يهدِّد الأفكار الكبرى.. والمبادئ الراسخة.. ويعبِّر الكاتب الباكستانى «أكبر أحمد» فى كتابه «ما بعد الحداثة».. عن ذلك القلق قائلاً: «من منظورى الإسلامى.. فإنَّ المسيحية لا تهدِّد الإسلام.. بل إن ظاهرة المطربة مادونا هى التى تهدد الإسلام».
إن هذه الرؤية فى «نهاية المجتمع» و«نهاية السرديات الكبرى».. وسيادة عصر الاستهلاك والاتصال.. هى ما جعلت الفيلسوف الألمانى «يورجن هابرماس» يرى فى «ما بعد الحداثة» نزعةً محافظةً.. حيث إنها لا تقاوم الأمر الواقع.
(2)
إنَّ «ما بعد الحداثة» بحسب بعض مؤرخى الفلسفة هى الأطروحة الفكرية للرأسمالية المتأخرة.. أو هى النظرية الثقافية لعصر العولمة. إنها فلسفة اللايقين.. حيث لا يمكن للناس التفكير بشكل مستقل، ولا يمكن إثبات أى شىء.. لا فى العلم ولا فى التاريخ ولا فى أى مجال آخر. إنَّ النص الذى تقرأه مرة أخرى هو نصٌّ آخر.. كل قراءةٍ جديدةٍ هى تفسيرٌ جديدٌ.. ولا يوجد معنى نهائى.
وتقع تلك المقولات للفيلسوف الفرنسى «جاك دريدا» تحت ما يسمى «التفكيكية».. وعند الفيلسوف المصرى الأمريكى «إيهاب حسن».. فإن الحقائق الكليّة قد انهارت.. وانهار معها اليقين.. ولم يعد هناك إلَّا شظايا مبعثرة فى كل اتجاه.. مثل أوصال أورفيوس.
فى عام 1971 أصدر إيهاب حسن كتابه الشهير «تقطيع أوصال أورفيوس».. نحو أدب «ما بعد حداثى».. وتقول أسطورة أورفيوس إنه شاعر له قدرات سحريّة.. تزوج حورية جميلة، ثم لدغتها أفعى فماتت. فراح يبحث عنها فى العالم السفلى حيث أرواح الموتى.. فكان أن كادتْ له النساء بسبب ما يفعله من أجل حبيبته.. وقُمن بتمزيقه إرباً إرباً.
(3)
إنَّ فلسفة «ما بعد الحداثة» إذاً ترى أن الاستسلام هو الحل.. لقد انهار المجتمع ولن يعود، وتمزَّق اليقين ولن يلتئم.. وتحكمَّت الاتصالات والأموال والسلع فى حياة الناس ولن تتراجع.. ولا مجال للتفاؤل الذى كان لدى الحداثة.. إن «تفاؤل الحداثة» لا يوجد لدى «ما بعد الحداثة».
ثمّة سياق آخر لما بعد الحداثة يتمَّثل فى نهضة بنائية وجمالية جديدة فى مجال الهندسة المعمارية.. وثمَّة سياق مرتبك يتعلق بما بعد الحداثة فى الأدب.. وهو سياقٌ يحمل الكثير من الغموض والادعاء.. كما أنه يغالى فى الاستعراض وفى التعقيد.. حتى يبدو لمحدودى العلم أنَّ شيئاً عظيماً يحدث هناك.
لم يقِف فائض الفلسفة عند تأسيس تيار «ما بعد الحداثة».. فلقد جاء من بعد ذلك تيار «بعد ما بعد الحداثة» أو «ما بعد بعد الحداثة».. إنَّها فلسفة عصر الفيمتو.. حيث لا يمكث المضارع طويلاً.. وكل حاضر لا يصمد إلَّا قليلاً حتى يصير ماضياً.. تحت وطأة التقدم العلمى المذهل فى القرن الحادى والعشرين.
(4)
هكذا انهار الكثير من المبانى الفلسفية الكبرى.. فى عصر ما بعد الحداثة وما بعدها.. أو هكذا تصوَّر ما بعد الحداثيين.
لقد كان تثاؤب الفلاسفة من فرط الفائض الفلسفى وراء الكثير من نتاج الفكر الغربى.. وحيث لا يمكن اليقين.. إلى أين يتجِه العقل والغرب.. فإنّه من الواجب أن يواجه العالم العربى معضلةً مغايرةً.. إنها ليست «فائض الفلسفة» بل هى «خريف الفلسفة».. أو «جفاف الفلسفة».. كيف يمكننا تجديد العقل العربى.. والدفع بموجات متعاقبة من «الفلاسفة الجدد».. كيف يمكن تنقية الثقافة العربية، وتنحية مخلفات الأنا والآخر.. معاً. كيف يمكن تدمير خريطة الدمّ لأجل بناء خريطة الحياة.. وإنهاء تحالف عديمى الموهبة.. لأجل الذين يعلمون ويعملون.
خلافاً لأطروحات ما بعد الحداثة وما بعد بعدها.. يحتاج العالم العربى -فى تقديري- إلى عصر الحداثة.. إلى المجتمع وإلى اليقين.. إلى النظريات الكلية والسرديّات الكبرى.. إلى تمكين العلم وسيادة العقل.