الخبير العالمى فى «الإدارة والخدمات»: الإصلاح الإدارى فى مصر ضرورة ملحة.. ورأس المال البشرى «كنز»
رون كوفمان
عاش طفولة قاسية، حتى الثالثة من عمره كان مصاباً بالتوحد، لم يكن أشد المتفائلين من أسرته يتوقع أن يحصل هذا الطفل البائس على قدر معقول من التعليم أو يحقق ولو قدراً بسيطاً من النجاح، لكنه أصبح أحد أشهر 25 متحدثاً على مستوى العالم، ويجوب الكرة الأرضية ليلقى محاضراته فى فن الإدارة والأداء الوظيفى وقطاع الخدمات، إنه «رون كوفمان»، المولود فى الولايات المتحدة عام 1956، تخرج فى جامعة براون، ثم انتقل مع أسرته إلى سنغافورة، وألّف هناك أول كتبه «شروق الشمس» الذى يُعتبر من الكتب الأكثر مبيعاً على مستوى العالم، وقدم من خلاله رؤية ذاتية وعملية للتخلص من مرض التوحد، ثم ألّف 15 كتاباً فى مجال الخدمة والأداء والجودة.
«كوفمان»: تجربة «سنغافورة والهند» فى التعليم والتدريب ملهمة.. والموارد الضعيفة ليست عائقاً أمام النجاح
زار «كوفمان» العديد من عواصم الدول، ومحطته الأخيرة كانت فى القاهرة للمشاركة فى مؤتمر «مصر للتميز الحكومى» الذى عُقد يومَى 3 و4 من الشهر الحالى. «الوطن» حاورت «كوفمان» فأكد أن الإصلاح الإدارى وتطوير مستوى الخدمة المقدمة للمواطنين أصبح ضرورة ملحة لا يمكن تأخيرها، مشدداً على ضرورة الاهتمام بما سماه «رأس المال البشرى» من خلال رفع كفاءة العاملين والموظفين، وتحديد نظام فعال للتقييم، والاعتماد على التكنولوجيا الحديثة كلاعب رئيسى فى مجال الخدمة العامة والإدارة.. وإلى نص الحوار:
تقوم مصر حالياً بعملية إصلاح شاملة للجهاز الإدارى للدولة، ما نصيحتك فى هذا المجال؟
- الموظف يجب أن يكون هو البداية فى أى عملية للإصلاح الإدارى والمؤسسى، لأنه هو الذى يقدم الخدمة للعملاء أو المواطنين، وهو الحلقة الأولى والواجهة التى يأخذ العميل انطباعه العام عن المؤسسة من خلالها، ولا بد من الاهتمام بالتدريب والتأهيل ورفع المهارات، وأن يعى كل موظف أو مسئول أنه يقدم خدمة للناس، ويجب أن تكون هذه الخدمة على أعلى مستوى، وتحقق الرضا للمواطن، وهذا لا يقتصر على مستوى الخدمة فقط، لكن على كيفية تقديمها، والطريقة التى تُقدم بها، والزمن الذى تستغرقه، والمجهود الذى يتحمله العميل للحصول على هذه الخدمة. وبدون الموظف الذى يفهم طبيعة هذا الأمر ويعمل على تحقيقه ويشعر بالتنافسية، لا يمكن القيام بعملية إصلاح حقيقى، ففى سنغافورة، على سبيل المثال، كان موظفو الاستقبال فى المطار هم واجهة عامة للدولة عند استقبال السائحين الذين يأتون إلى البلاد، وتم تدريبهم على أفضل طريقة لاستقبال السائحين، ويكفى أن نعرف أن عبارة واحدة ظل يرددها موظف الاستقبال «أهلاً.. تفضل الحلوى» بطريقة فيها حيوية وجاذبية كان لها تأثير كبير وخلقت طابعاً جيداً لدى الأشخاص الذين يزورون سنغافورة التى قدمت تجربة على مستوى الخطوط الجوية للطيران حققت رضا المواطنين والوافدين وحققت أرباحاً وزيادة الدخل، نتيجة وجود الثقافة الخدماتية الجيدة، فجميع العاملين فى المطار يأخذون على عاتقهم أن يكون عملهم تكاملياً مع الموظفين الآخرين بهدف تقديم خدمات ذات جودة عالية.
هل هناك علاقة بين جودة الخدمة والتقدم الاقتصادى للدول؟
- نعم، هناك علاقة وثيقة بين خدمة العملاء وتقدُّم المؤسسات والدول، بل إن بعض الدول، مثل سنغافورة كما ذكرت، واليابان وكوريا الجنوبية، استطاعت أن تنمو بشكل مطرد ومتزايد لأنها ركزت على خدمة العملاء وتقديم خدمات مميزة ذات قيمة عالية. والاقتصادات الصاعدة، خصوصاً الدول الصغيرة والمتوسطة التى لا تملك الكثير من مقومات المنافسة أمام الدول الكبرى، مثل الهند، بدأت تعى أهمية تقديم خدمة متميزة تترك لدى المتعاملين معها أثراً طويل الأمد، مما يحدوهم إلى العودة لها للاستفادة من مستوى الرعاية والخدمة العالية التى تقدمها، وأيضاً دبى اهتمت جداً بقطاع الخدمات. لكنى أريد أن أعود مرة أخرى للحديث عن تجربة سنغافورة الرائدة فى مستوى الاهتمام بالخدمة ورفع كفاءة ومهارة العاملين من مقدمى هذه الخدمة، سنجد أن السنغافوريين ركزوا على التعليم والتدريب حتى أصبحوا يتمتعون بنظام تعليمى وتدريبى ذى مستوى عالمى استطاعوا من خلاله إعداد أجيال من رأس المال البشرى السنغافورى الكفء فى مختلف المجالات، لذا أقولها بكل صراحة: رأس المال البشرى كنز يجب استغلاله، وهو العنصر الأهم فى منظومة الإصلاح الإدارى، ومن ثم تقديم خدمة جيدة، ما يسهم فى وضع المؤسسات والدول فى مستويات تنافسية عالية حتى لو كانت مواردها ضعيفة.
هناك علاقة قوية بين جودة الخدمة وتقدُّم المؤسسات والدول والتكنولوجيا الحديثة لاعب رئيسى فى ضبط «دولاب الدولة».. واحذروا.. من لا يتحرك للأمام سيرجع إلى الخلف ونعيش فى عصر السرعة والتنافسية.. وهناك فارق كبير بين النجاح والتفوق
هل يعنى ذلك أن الموارد الطبيعية والمادية ليست عائقاً أمام تحقيق التقدم والتنمية؟
- نعم، ليست الموارد الضعيفة عائقاً أمام النجاح، وليست مبرراً للفشل، إذا كان هناك رأس مال بشرى يحسن استغلاله بالطريقة المثلى ويؤدى عمله بالصورة المبدعة وليست الجيدة، فالسنغافوريون أدخلوا فى مناهجهم الدراسية مسابقات تسويقية متخصصة بهدف تسليح الطالب بالأدوات اللازمة التى تمكّنه من المشاركة فى سوق العمل بمهارة وكفاءة وتقديم قيمة مضافة وتقديم أفضل خدمة للمتعاملين مع مؤسسات الدولة وجهازها الإدارى، ونجحت سنغافورة رغم أنها ليست دولة غنية بالموارد الطبيعة.
فى مصر تتردد مقولة دائماً: إن التغيير أصبح ضرورة، والإصلاح لم يكن من الممكن تأخيره مهما كلف من أعباء.. ما صحة ذلك؟
- التغيير ضرورة دائماً بهدف التحسين والتطوير، وأقول للجميع: احذروا، فمن لا يتحرك للأمام سيرجع إلى الخلف، وعملية الإصلاح يجب الإقدام عليها بأسرع ما يمكن فى كل مؤسسة وكل بلد، لأننا نعيش حالياً عصراً جديداً هو عصر التنافسية والسرعة، والخدمة المميزة باتت ضرورية فى هذا العصر، لوجود درجة كبيرة من درجات المنافسة والانفتاح والبدائل المتاحة للعميل، ووجود آلاف الشركات التى تطلب ود العميل، وتحسن الوضع الاقتصادى والرفاهية التى يعيشها العميل مما يجعله يبحث عن الخدمات التى توفر له الراحة. ويجب أن نعلم أن الخدمة المميزة ليس لها حدود، لأن رغبات العميل متطورة ومتغيرة، وسعى المؤسسة لتقديم الخدمة بالطريقة التى يريدها العميل نفسه، بحسب ذوقه واحتياجاته، تؤدى إلى تعزيز مكانة الشركة فى إنتاج وتقديم الخدمة، وكلما قدمت المؤسسة خدمات مميزة، زادت فرصتها فى كسب الزبائن والعملاء وتحقيق رضا المواطنين، وتعزيز موقعها التنافسى فى السوق، وأينما توافرت الخدمة المميزة تحقق النجاح وتوفر الأموال.
إذاً كيف يمكن تحقيق البيئة التنافسية للأعمال والخدمات؟
- من خلال التحديث والتطوير والاهتمام بالعنصر البشرى والانفتاح على التجارب الناجحة والعمل المستمر على تقديم أفضل مستوى للخدمة، فكل ذلك من شأنه تحقيق الميزة التنافسية للمؤسسات التى تعتمد على العديد من العناصر، منها الكفاءة فى أداء العمليات التشغيلية والقدرة على تقليل التكاليف، ليس التكاليف المادية فقط، لكن الأمر يتعلق بالمال والجهد والوقت، بالإضافة إلى الجودة والقيمة المضافة التى تنتجها الخدمة المتميزة للعملاء، والأمر لا يتوقف عند تقديم الخدمة المميزة فحسب، لكن علينا أيضاً أن نفعّل نظاماً تقييمياً واقعياً للخدمات المقدمة، لأن ذلك من شأنه أن يساعدنا على تحديد نقاط الضعف ومجالات التطوير والتوسع فى جودة الخدمة وتحسينها بصفة مستمرة، ويجب أن نعلم أن هناك فارقاً بين النجاح والتفوق، النجاح هو التقدم فى مستوى الخدمة، لكن هذا النجاح قد يتراجع بمرور الوقت، لكن التفوق هو ما يضمن التقدم المستمر فى مستويات الخدمة الستة.
وما المستويات الستة للخدمة التى يمكن تقديمها؟
- أعددت شكلاً هرمياً للخدمات التى تقدمها المؤسسات مكوناً من 6 مستويات، فى أسفل القائمة «المستوى المتدنى» جداً من الخدمة، الذى لا يحقق رضا المواطنين ويغضبهم ويزعجهم، ويعتبر مستوى غير مقبول ومن الضرورى معالجته بشكل فورى. وبعده يأتى «المستوى العادى» الذى يتم فيه تقديم الخدمة بصورة تحقق الغرض الأساسى منها، ولكنها لا تترك أثراً لدى العميل، وهذا المستوى يستوجب العمل عليه ورفعه ليصل إلى المرحلة التى تليه وهى «مستوى الجودة» التى لا تكتفى بتقديم الغرض الأساسى فقط، لكنها تلبى توقعات العميل الأساسية من الخدمة المقدمة. أما المستوى الرابع فهو «الخدمة المطلوبة أو المرغوبة»، وهنا يرتفع مستوى الخدمة إلى درجة عالية من الجودة، وهو مستوى يعبّر عن مجهود بذلته المؤسسة فى تأهيل وتدريب كوادرها لتقديم جودة وتجربة فريدة للعميل. ثم يأتى المستوى الخامس من الخدمة الذى يحقق مفاجأة سارة للعميل، حيث يفاجأ المواطن بتوفير سبل راحة غير مسبوقة إلى جانب تحقيق الغرض الأساسى بجودة عالية، مما يحقق الهدف الرئيسى فى بناء علاقة وطيدة طويلة الأمد مع العميل، ثم فى النهاية يأتى المستوى الرفيع من الخدمات فى المرتبة السادسة والأعلى، وهو «المستوى المدهش» الذى تقدم فيه المؤسسة خدمة للمواطن تدهشه إلى درجة غير مسبوقة، وتحقق أعلى درجات الرضا، وهذا أقصى الطموح الذى يجب أن تسعى له كل المؤسسات.
يوجد 6 مستويات للخدمات.. «المتدنى» فى القاعدة ويتسبب فى غضب المواطنين و«المدهش» فى القمة ويحقق أعلى درجات الرضا لدى الرأى العام
هل التكنولوجيا تلعب دوراً فى تطور مستويات الخدمة وتحقيق عملية الإصلاح الإدارى والخدمى؟
- نعم.. فنظم المعلومات الحديثة تلعب دوراً كبيراً فى تحقيق مستويات عالية من الخدمة المميزة، ولا تُتوقع عملية إصلاح فى قطاع الخدمات والإدارة بدون إدخال التكنولوجيا كلاعب رئيسى، فالتقنيات الحديثة لها دور كبير، بلا شك، فى رفع مستوى الخدمات المقدمة للعملاء وقياس مستوى رضا المتعاملين فى كافة مفاصل الأعمال فى القطاعين الحكومى والخاص، وإذا ألقينا نظرة على الفنادق والمطارات سنجدها تشكل أمثلة حية ومقياساً لما يجب أن تكون عليه رعاية العملاء فى المجالات الأخرى، حيث تُعتبر هذه المرافق هى الأكثر استجابة لمتطلبات العملاء وتحقيق الرضا، والتكنولوجيا لها دور كبير فى هذه القطاعات، نحن فى عصر رقمى، صحيح أن العنصر البشرى هو الخطوة الأولى كما ذكرت، لكن التكنولوجيا يجب أن تسير جنباً إلى جنب مع تطوير الموارد البشرية من العاملين.