الحمد لله
وقفت على مقالة للكاتب المعروف الأستاذ مشعل السديرى، وفّقه الله، بعنوان «عقولنا ليست عقول عصافير» اشتملت على مقدمتين وملاحظتين مختلفتين بينهما مشترك.
وليسمح لى أخى الأستاذ مشعل بأن أوجه له المقدمتين بالمثل من البوح بالاحترام والتقدير لشخصه الكريم وبالإعجاب ببعض ما يسطره قلمه، على أنَّ ذلك بالطبع لا يعنى العصمة من الخطأ.
وأما الملاحظتان فإحداهما عقلية والأخرى ذوقية، والقاسم المشترك بينهما أنّ كونه مُسلماً لا يجعله مُلزَماً بقَبول ما لم يتقبله منهما بحيث يضر رفضه لهما بدينه لأنهما متعلقتان بخبر عن غير معصوم.
فالأُولى: عدم تقبله لكرامتين منسوبتين لسيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه تتعلقان بخطابه للنيل كى يفيض، وخطابه لسيدنا سارية الهُذَلِى رضى الله عنه وهو فى بلاد أخرى.
ووجه عدم الإلزام هنا متعلق بالخبر عن غير المعصوم وكونه ليس قطعياً؛ فعدم تصديقه به لا يضره، على أنّ أصل ثبوت الكرامة للصالحين وخرق العادات لهم ثابت فى الكتاب والسنة وهو مؤيَّد بالعقل. أما الكتاب فقوله تعالى لسيدتنا العذراء مريم عليها السلام: {وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِياً}. وأى قدرة لبشرٍ يستطيع بها هز جذع نخلة ليُسقط منها الرطب؟! والأستاذ مشعل من بلاد حباها الله بالنخل فهو يعرف ذلك جيداً، فكيف إذا كان من يُطلَب منه ذلك امرأة نفساء حديثة عهد بالولادة، وإذا أخذنا بالاعتبار تاريخ الميلاد الذى يحتفل به المسيحيون فسيجد أمامه خرقاً آخر للعادة إذ إنّ النخل لا يثمر فى الشتاء.
وأما السُنّة فحديث جُريج الراهب الذى اتهمه قومه بالزنا وإنجاب طفل غير شرعى، فأشار إلى الطفل الرضيع وسأله عن أبيه فأنطقه القدير جلَّ جلاله ليخبر بالحقيقة، والحديث ثابت فى البخارى ومسلم ومسند أحمد.
ومن جهة الدليل العقلى فإنَّ من سَنّ القوانين الطبيعية، له سبحانه القدرة على خرقها لمن شاء من عباده.
والاستشهاد بقوله تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَراً رَّسُولاً} للاستدلال به على أنّ خوارق العادات منافية للبشرية فمردود بتعلّق السياق هنا بمطالب اشترطها الكفار فيها ما لا يتناسب مع البشرية كقولهم: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً}.
ولم يكن إذنُ الله لسيدنا المسيح عليه السلام بإحياء الموتى ناقضاً لبشريته، قال تعالى على لسان السيد المسيح: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّى أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِى الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
والملاحظة الثانية، وهى الملاحظة الذوقية، فمتعلقة بما سمعتُه من الشاعر الراحل أحمد شفيق كامل، رحمه الله، عن كونه نظَمَ رائعتيه «أنت عمرى» و«أمل حياتى» مدحةً فى الجناب النبوى الشريف ﷺ.
ومع تحفظٍ لا يخل باحترام الكاتب على كلمة «يسرح بك» التى أشار بها إلى الشاعر فإنه رحمه الله لم يكن فى حاجة إلى ذلك لا سيما وهو فى آخر عمره واللقاء فى مسجد، غير أنَّ رؤية الأستاذ مشعل بعض كلمات القصيدتين غير لائقة بمخاطبة المقام النبوى السامى أمر شديد النسبية يخضع إلى ذوقه الخاص كما يخضع إلى ثقافته تجاه مفهوم الحب والشوق والحنان ونظرة العين واحتضان القلب، من حيث ملاءمة ذلك للمعانى السامية أو اقتصاره على العلاقات الجسدية الغرائزية.
وهو أمر مباين لبيئة الشاعر وثقافته ونظرته، وكما تقول العرب «المعنى فى بطن الشاعر».
وأما تعبير أهل التعلق والتعشق للجمال المحمدى عن مكنون أشواقهم فهو متصل بسمو ذلك عن الغرائز الجسدية.
وأورد هنا مثالين من قصيدتين شهيرتين فى المديح النبوى الشريف تتابع المنشدون فى سائر البلاد على التغنى بهما، وهما من نظم الإمامين الجليلين محمد شرف الدين البوصيرى وسلطان العاشقين ابن الفارض وكلاهما من مصر المحروسة بلد الشاعر:
يقول البوصيرى فى بُردته:
لولاَ الهَوَى لَمْ تُرِقْ دَمْعاً عَلَى طَلَلٍ ولا أَرِقتَ لذكرِ البانِ والعلَمِ
فكيفَ تُنْكِرُ حُبَّا بعدَ ما شَهِدَتْ بهِ عليكَ عدولُ الدَّمْعِ والسَّقَم
وَأثْبَتَ الوجْدُ خَطَّىْ عَبْرَة ٍ وضَنًى مِثْلَ البَهارِ عَلَى خَدَّيْكَ والعَنَمِ
نعمْ سرى طيفُ من أهوى فأرّقنى والحُبُّ يَعْتَرِضُ اللَّذاتِ بالأَلَمِ
يا لائِمِى فى الهَوَى العُذْرِىِّ مَعْذِرَة ً منِّى إليكَ ولو أنصفتَ لم تلُمِ
ويقول «سلطان العاشقين» ابن الفارض فى قصيدته التى مطلعها:
قلبى يُحدثنى بأنك مُتلفى روحى فداكَ عرفتَ أم لم تعرفِ
أخفَيتُ حُبّكُمُ فأخفانى أسىً حتى لعَمرى كِدْتُ عنى أختفي
وكتمْتُهُ عنّى فلو أبدَيْتُهُ لوَجَدْتُهُ أخفى منَ اللُّطْف الخَفي
ولقد أَقولُ لِمَنْ تحَرّشَ بالهوى عرّضْتَ نفسَكَ للبَلاءْ فاستهدفِ
أنتَ القَتِيْلُ بأىّ مَنْ أحبَبْتَهُ فاختر لنَفْسِكَ فى الهوى من تصطفي
قُلْ للعذولِ أطلْتَ لومى طامعًا إنَّ الملامَ عن الهوى مُستوقِفى
دَعْ عنكَ تَعنيفى وذُقْ طعم الهَوَى فإذا عشِقْتَ فبعدَ ذلكَ عَنّفِ
والخلاصة أنَّ الاختلاف هنا لا يفسد للود قضية فهو اختلاف مشروع واللوم عنه منزوع ما دام كل طرف يُكنّ الاحترام للآخر ويعترف بحقه فى أن يكون مختلفاً عنه فى ذائقة أو تعبير أو تفكير.
وهنا يكمن سبب كتابة هذه الأسطر، إذ إنَّ كثيراً مما نعانيه وتعانيه منطقتنا بل وثقافة العصر المأزوم راجع إلى غياب تقبّل التنوع والاختلاف حتى عند دُعاته وأدعيائه فيما يُسمى بالعالم الحر أو العالم المتحضر الذى ينطق بعبارة: «من ليس معنا فهو ضدنا».
فمرحباً بنقد الأستاذ مشعل السديرى، ومرحباً به، وله فائق الاحترام والسلام.