ظل المد الأزهرى يسود الحياة المصرية حتى بدايات القرن العشرين، حيث نشأت تيارات إسلامية مختلفة، وكان الأزهر من أهم العوامل الفكرية والعلمية التى قامت بالتعليم والصياغة والتشكيل لشخصية الإنسان المصرى، والأزهر ليس أبنية وجدراناً وإدارة ورجالاً، بل هو أعمق من ذلك، إنه منهج علمى منضبط فى فهم الدين، ولكن مع انحسار المد الأزهرى تضخمت البؤر الفكرية المنحرفة التى تريد أن تصنع مرجعية بديلة عن الأزهر.
كل هذه المعانى استوعبها القائمون على (الرواق الأزهرى بأسيوط)، فغاروا على المنهج الأزهرى أن يخطف أو تتبدل معالمه، وقد رأوا الأقزام يعرضون أفكارهم على الأمة اليتيمة، لتجرى وراءهم إلى الهاوية، لذا رفعوا شعار (عقل يفكر ويد تبنى وقلب يتزكى)، ليجمع أركان المنهج الأزهرى، وانطلق من هذا الشعار مشروع (آن الأوان) التابع لرواق أسيوط فى 1/7/2017م فى موسمه الأول.
إنه مشروع يمثل نموذجاً يحتذى لمواجهة الأفكار المنحرفة من ناحية، والحفاظ على المرجعية الأزهرية من ناحية، والتمييز بين الأزهرى شهادة وتخرجاً وبين الأزهرى منهجاً وانتماء من ناحية ثالثة.. ويتكون المشروع من ثلاثة محاور: فكرى وعلمى وأخلاقى، ويركز على بناء الإنسان أولاً، فيتحدث عن النموذج المعرفى الإسلامى الصحيح والمقارنة بينه وبين النماذج المعرفية الأخرى، ثم يبين الأركان والمعالم الكبرى للمنهج الأزهرى، وتلك وحدها كفيلة بإسقاط خوارج العصر من التيارات المتشددة الذين قاموا كالطحالب الطافية على الماء، فجلبوا على صورة الإسلام النقية عاراً وتشوهات.
ولم يكن هذا المشروع تراثياً تقليدياً منقطعاً عن العصر وتجلياته، بل ناقش الفلسفات الحديثة وقضايا العلمانية، والحداثة، والأناركية، والمريمية، والعقلانية، والمطلق والنسبى، ومكانة العقل، وفلسفة التعدد، والنسبية، ونظرية الأوتار الفائقة التى تعتبر من أهم نظريات علم الفيزياء، ونظرية تعدد الأكوان، والإلحاد وأسبابه وأوهامه، ودور الأخلاق فى بناء الحضارة.
وتناولت بعض المحاضرات الرد على الشبهات، لا بالطريقة التقليدية التى تسرد كل شبهة على حدة، وكلما رددت على شبهة ظهرت أخرى بما لا نصل معه إلى نتيجة، ولكن بطريقة علمية رصينة، تبدأ بالتحرير المعرفى لخلاصة المقولات والنظريات والأفكار، ووضع قواعد إجمالية للرد على الشبهات تصلح لتسكين أى شبهة، على غرار كتاب (مقالات الإسلاميين) للأشعرى.
إن هذا المجهود الذى يتم فى هدوء لا صخب فيه، وبطريقة علمية لا إعلامية إنما هو الفريضة الغائبة التى نحن فى أمس الحاجة إليها اليوم، ولست أحصى رجالاً كثراً يقفون وراء هذه المجهود، لبسوا رسن العلم والتأصيل، أشير على سبيل المثال لا الحصر إلى محور المحاضرات الفكرية التى ألقاها المهندس «أحمد محمد عبدالرشيد»، والمحور العلمى التجريبى الذى ألقى محاضراته الأستاذ «أحمد سعد مصطفى»، كما برز الشيخ «محمد عمر هاشم» ليلقى محاضرات المحور الأخلاقى مبيناً أثر الفلسفات المختلفة فى سلوك وأخلاق الإنسان المعاصر، مبرزاً أثر الأخلاق فى تهذيب النفس.
إن هذا المشروع الذى بدأ موسمه الثانى بعد إقبال الجمهور عليه يقف من ورائه عالمان جليلان وأستاذان باعهما فى العلم والتربية والأستاذية ليس ينكر، هما الفقيه الأصولى الأزهرى سليل بيت العلم الشيخ «محمد جمال الدين هاشم» المشرف العام على الرواق الأزهرى بأسيوط، والعالم المتكلم الشيخ «محمد علم الدين ضاحى» المشرف التنفيذى على الرواق.. إنها رسالة لكل مسئول يعنيه شأن مصر وأمنها واستقرارها مفادها أن مواجهة خوارج العصر والحفاظ على الأزهر كمنهج منضبط تبدأ بهذه الطريقة.. وبهذا المنهج العلمى.. من هنا البداية ومن هنا البناء.