عميد المراسلين الأجانب: هاجرت فى الخمسينات مع آلاف الألمان إلى «أجمل عواصم الأرض»
يحمل صوراً التقطها للقاهرة قديماً
ما زالت تلك المشاهد عالقة فى ذهنه، جندى من الحزب النازى بزيه البنى المميز، يطرق الباب على منزله، ويبلغ والدته بوفاة والده الذى جند مع بداية الحرب العالمية الثانية فى صفوف جيش هتلر، وبعدها بشهور قليلة يتحول بيته الصغير إلى كومة من النيران بعد غارة استهدفت بلدته الأثرية «هيدلس هين» فى ألمانيا، تلك فقط هى المشاهد الباقية فى ذاكرة الطفل «فولكهارد فيند فورد» عن ألمانيا، التى هاجر منها مع آلاف الألمان قاصداً عاصمة الشرق ليعيش فيها بعد ذلك شبابه وطيلة حياته، حتى أصبح عميد الصحفيين الأجانب فى منطقة الشرق الأوسط ومصر، ويتم اختياره بصفته أقدم مراسل بالقاهرة، رئيساً لجمعية المراسلين الأجانب فى مصر.
«فورد» الذى ولد فى يناير 1937، يقول لـ«الوطن» إن الحرب العالمية الثانية أثرت على حياة الألمان وحياته على وجه الخصوص، حيث أحرقت غارة جوية بلدته بالكامل، وانتهت الحرب بتفريغ برلين من أهلها، وتقسيمها لمناطق احتلال فرنسية وأمريكية وبريطانية.
«فورد»: عشقتها ورفضت العودة مع «أمى» للوطن.. ومنحدر الهبوط بدأ فى السبعينات.. وتفاقمت ظاهرة فوضى البناء خلال عهد «مبارك»
حصلت والدة «فورد» على فرصة عمل بالتدريس فى مدرسة بقرية صغيرة نائية، وكانت ظروف المعيشة فيها صعبة للغاية، حيث كان يعيش فى تلك القرية 11 مليون لاجئ ألمانى، حتى إن مياه الشرب كان «فورد» ووالدته يحصلان عليها من البئر: «كويس إننا عرفنا نعيش ونحافظ على حياتنا».
فى 23 سبتمبر 1955، كان «فورد» قد بلغ السابعة عشرة، ودفعته هذه الأوضاع المتردية فى بلاده أن يجلس بجوار والدته على مقعد الطائرة المتجهة إلى درة الشرق، وأخذ يطالع من نافذة الطائرة شوارع القاهرة، التى كان يقطنها مليون و600 ألف نسمة والإسكندرية 900 ألف، ويقول: «استقريت فى دار الألمان فى الفجالة، وبعد فترة من الوقت نقلنا إلى الزمالك»، حيث استقبلت القاهرة عشرات الألوف من الألمان هرباً من ويلات الحرب العالمية الثانية.
الشاب الصغير، كانت هذه أول مرة يشاهد فيها القاهرة، وكانت صور ما فعلته الحرب العالمية بألمانيا ما زالت عالقة فى ذهنه، ويقول: «كانت القاهرة هى أجمل عاصمة رأتها عينى، كانت جميلة وتشع بهاء وعظمة وأناقة، لم تكن عشوائية بالطريقة التى هى عليها الآن»، ويصف: «المنازل مزينة وملونة ومتناسقة، والترام يمر بكافة شوارعها، وتتوسطها الأوبرا، وتعرض بداخلها كل يوم الكثير من العروض الفنية والموسيقية».
بعد 3 سنوات، عادت والدته إلى ألمانيا بسبب مرضها بالسرطان، ولكن هو رفض العودة وقرر الاستمرار بالقاهرة، دخل إحدى المدارس الألمانية الإنجيلية بالزمالك وطلب أن تكون اللغة العربية هى اللغة الأولى فى الدراسة «حصلت على مجموع عالٍ مكننى من الحصول على منحة دراسية لاستكمال تعليمى». العيش فى القاهرة وقتها كان لا يمثل لـ«فورد» أى غربة لألمانى هارب من الدمار، فكان هناك ترحيب بالغرباء: «عمرى فى حياتى ما حسيت أنى غريب فى القاهرة»، فكانت الثقافة المصرية تستوعب الآخر وخاصة إن كان هذا الآخر فى أزمة وجاء وليس لديه نية الاحتلال والغدر والاستغلال.
أثناء دراسته فى المدرسة الألمانية بالزمالك، بدأ العمل فى الصحافة وأخذ الثانوية المنزلية وهو يعمل بالإذاعة، وتخصص فى تغطية أخبار الشرق الأوسط وأجرى الكثير من الحوارات مع رؤساء وزعماء العالم من مصر.
انبهاره الكبير بالقاهرة دفعه للعيش فى مصر وعدم العودة إلى ألمانيا رغم امتلاكه لمنزل ورثه عن والدته بعد وفاتها، ويتذكر حينما رتب الكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل أول لقاء مع الرئيس جمال عبدالناصر بعد ثورة 1952 سأله «ناصر»: «تحب القاهرة أكثر ولا برلين؟»، فرد القاهرة، ومن حينها توطدت علاقتهما وأصبح أصدقاء «فورد» يصفونه بـ«الألمانى الناصرى».
«درة الشرق» تستوعب الأجنبى ولا يشعر فيها بالغربة.. ومنازلها كانت متناسقة ومزيَّنة والمناطق العشوائية حلت محل أماكن الثقافة والفن.. ولكنها تخرج الموهوبين والمبدعين
ولكن الآن، الرجل الذى يعيش فى التجمع الخامس بسبب رغبته فى البعد عن الغبار والأتربة، يقول إن العاصمة تضاعف سكانها عشر مرات وأكثر، وانتشرت العشوائية فى وسطها وليس على أطرافها، بجانب أن من هجروا قراهم فى الأقاليم بحثاً عن حياة كريمة صبغوا العاصمة بطباعهم وأثروا فيها وليست هى من أثرت فيهم، وشكلوا مجتمعات عشوائية فى وسطها، وهذا يعود لأسباب تنموية وبشرية. ويتزامن هذا حسب رؤية «فورد» مع إهمال واضح من الحكومات المتعاقبة فى تطوير البنية التحتية، مما خلق عاصمة عشوائية، غير قادرة على الحفاظ على آثارها وتراثها الثقافى والحضارى، فى ظل فشل محاولات عديدة للترميم واحدة بعد الأخرى، ويستشهد بالمستشفى الذى تلقى فيه لويس التاسع ملك فرنسا علاجه فى قلب القاهرة، والذى تحول لخرابة وانهار المبنى بالكامل، ولكن رغم ذلك، يأمل الرجل أن تتحسن الظروف، وتحافظ العاصمة على موروثها الكبير.
الرجل الذى أجرى اتصالاً بالرئيس الراحل السادات قبل أربعة أيام من اغتياله ليناقشه فى تطورات الأوضاع، يعتقد أن منحدر الهبوط فى إهمال القاهرة بدأ فى السبعينات خلال فترة حكم الرجل الذى كان يحادثه، فى ظل هوجة بناء العمارات الشاهقة التى شوهت شكل النيل ودمرت منظر العاصمة، ولكنه يشير إلى أن جيهان السادات كان شديدة الاهتمام بالتراث وترميم تراث القاهرة.
العجوز الذى يجلس وإلى جواره صورة وهو يتوسط أعضاء جمعية أصدقاء سكة حديد مصر، يقول إن تأزم الموقف فى العاصمة وتفاقمه حدث بعدما تحالف أصحاب رؤوس الأموال مع السلطة فى عهد مبارك، حيث سمح هذا بتوغل رجال الأعمال وسيطرتهم على الكثير من الأراضى فى العاصمة، وانتشرت خلالها عملية البناء غير المنظم والعشوائى من أجل مصالحهم وليس لصالح العاصمة، بخلاف أن كثيراً من التجار المستوردين حاربوا المشاريع الإنتاجية التى كانت تضج بها القاهرة لصالح تجارتهم.
«فورد» يرتبط بكثير من الأصدقاء من العلماء والأطباء وأساتذة الجامعات الذين خرجوا من رحم العشوائيات، يقول إن المناطق العشوائية حلت محل أماكن الثقافة والفن والإبداع فى القاهرة التى كانت درة الشرق، ورغم ذلك يجد أن الروح المصرية الأصيلة للمصريين لم تتغير منذ مئات السنين، ويدلل على ذلك أن من قلب تلك العشوائيات يخرج الموهوبون والمبدعون.
«فورد» مع عمرو موسى فى الجامعة العربية
مع نجيب محفوظ فى المستشفى بعد إصابته فى الحادث الشهير