منذ شهور قليلة مضت، وأثناء قصف الجيش السورى لـ«مخيم اليرموك» باعتباره من الأحياء الجنوبية لدمشق العاصمة، حيث كان حينئذ يسيطر عليه فصيل قوى لتنظيم «داعش»، ويضم أيضاً ما يقارب (7000 مدنى)، كافة التقارير التى تابعت القصف والأعمال العسكرية، أوردت حينها أن القصف لم يفرق ما بين عناصر داعش وما بين المدنيين الذين هرعوا إلى المخيم المتداعى، بحثاً عن ملاذ وسط الجحيم المستعر ما بين الفصائل والنظام، الذى كانت فصوله تجرى على حدود العاصمة وامتدادها الجنوبى بالأخص.
حينها كان المسار السياسى الذى خاضه النظام، بدفع ورعاية روسية مع قيادات التنظيم، بغية الوصول معه إلى تفاهم «تحت النار»، يضمن خروجاً آمناً لعناصر «داعش» الموجودين بجنوب دمشق، ويسيطرون على العديد من الأحياء فيها، إلى «ريف السويداء» الشمالى على أطراف البادية السورية، هذه الرغبة السورية الروسية كانت بغرض خلق اضطراب بالقرب من محافظة السويداء اللصيقة مع الحدود الأردنية، وهذا حتماً سينتج قلقاً أمنياً متوقعاً بالقرب من المنطقة التى ما زالت قوات التحالف الدولى تسيطر عليها، وفيها «قاعدة التنف العسكرية» التى تديرها القوة الأمريكية فى هذه النقطة الاستراتيجية من الجنوب السورى.
على الرغم من الإصرار والتهديد الروسى، من أجل إتمام الاتفاق، إلا أن خروجه بالصورة النهائية تعثر، وصار عصياً على التطبيق الفعلى على الأرض، لذلك فعملياً فيما بعد هذا التاريخ، ولتعذر الوصول لاتفاق متكامل مع «داعش»، رغم إبداء آخرين من الفصائل المسلحة رغبة فى الاستفادة من عرض النظام وروسيا بنقلهم إلى الشمال، حيث يتم استقبالهم فى «إدلب» وأسرهم والمدنيين الذين يرغبون فى المغادرة معهم، أصبح تنظيم «داعش» يسيطر على منطقة شاسعة، تشمل كلاً من: ريف دمشق الشرقى، وريف السويداء الشمالى والشرقى، وصولاً إلى أطراف البادية القريبة من نهر الفرات، هذا المجال أعطى لعناصر التنظيم حرية واسعة للحركة فى طول البادية وعرضها، حيث أصبحت خطوط التماس الفعلية له هى حدود السويداء الشمالية والشرقية ومدينة «تدمر»، فضلاً عن مدن وقرى محافظة «دير الزور» على ضفة نهر الفرات.
بعد ساعات محدودة من حدوث المجزرة التى أودت بحياة (225 ضحية)، ومئات غيرهم ما بين مصاب، وأسير ما زال تحت قبضة التنظيم، السؤال الأول الذى خرج على ألسنة أهالى السويداء كان يفتش فى لحظات الذهول، عن السبب وراء سحب النظام لقواته من حدود قرى «السويداء» مع البادية، حيث كان يفترض قيامها بمنع هجمات التنظيم على المحافظة، فعملية سحب هذه القوات المفاجئ وعدم تثبيت نقاط دفاعية مجهزة على طول هذا الشريط، تجعل من حدوث هجمات كهذه على السويداء أمراً مليئاً بالألغاز.
لم تقف الأسئلة عند هذا الحد المفزع، بل امتدت لتفكك فحوى الرسالة الروسية، إلى المحافظة التى ماطلت فى تسليم سلاحها لقوات النظام، ولم توافق على تشكيل ميليشيات تتبع الشرطة العسكرية الروسية، كما هو متبع فى المحافظات الأخرى، فبعد عدة اجتماعات ضغط جرت خلال الشهر الماضى، طلب فيها تشكيل قوات محلية تتبع روسيا بشكل مباشر، وهو ما تم انتزاع الموافقة عليه على مضض من قبل وجهاء المحافظة، إلا أنهم لم يتخذوا فعلياً أى إجراء لتنفيذه، لتجد بلدات «السويداء» عناصر «داعش»، فوق رؤوسهم بغتة ليصولوا ويجولوا ويلغوا فى دماء أبنائهم من دون سبب مفهوم، فهى مجزرة لن تحقق للتنظيم أى هدف تكتيكى منظور، أو أى نصر استراتيجى يمكن الاستناد إليه.
محافظة السويداء الواقعة إلى الجنوب الشرقى من دمشق، وتحدها من الجنوب الأردن، عدد سكانها يقدر بـ(476 ألف نسمة) غالبيتهم من طائفة «الموحدين الدروز»، كانت على موعد مع ما أصبح مسجلاً باسم «مجزرة السويداء» نفذتها عناصر تنظيم «داعش» الإرهابى، عبر خطة محكمة مباغتة، حيث كان دخولهم من خلال (4 عمليات انتحارية) متزامنة، ثم الهجوم على (7 قرى) واحتلالها، لتبدأ فصول المجزرة المتتابعة، حيث شهد البعض منها فتح النيران بصورة عشوائية على مواطنين وفلاحين من أهالى القرى الذاهلين والمملوئين رعباً، حيث ظلت تلك المحافظة هى الوحيدة التى أعلنت حيادها طوال فصول المأساة السورية، والموقف اللافت لهم كان امتناعهم عن دخول شبابهم فى صفوف الجيش السورى، لعدم قتال أبناء بلدهم السوريين من بنى جلدتهم، كما لم يسمح دروز السويداء بدخول داعش أو أى من التنظيمات المسلحة الأخرى، فضلاً عن القوات الروسية أو الإيرانية إلى مناطقهم، طوال السنوات الماضية رغم محورية موقعهم الجغرافى، الذى يتقاطع مع مناطق نفوذ كافة أطراف الصراع.
هذا التقاطع الجغرافى جعل مفتاح فهم ما جرى مربوطاً بما جرى على تخوم «السويداء»، فالنظام والروس لديهم سردية أخرى بالطبع، فقد سارعوا بتعليق وزر ما جرى فى عنق قوات التحالف الدولى بـ«التنف» بالقيادة الأمريكية، على اعتبار أنها تملك القدرة على إيقاف «داعش» أثناء تحركها من البادية تجاه السويداء، لكن تهافت هذا الإسناد لم يكلف تلك القوات عناء التعليق عليه، فإن كان فى جزء منه صحيحاً فيما يخص «التواطؤ» بالصمت، فالمعلوم أنه يجرى لمراقبة واستحسان ما يتورط فيه الطرف الآخر، لأن من جلس مع قيادات «داعش» للتفاوض ومن سمح لها بالخروج والاستقرار فى تلك المنطقة، كانوا هم الروس وليس قوات التحالف الدولى، ومن أصدر قراراً يبدو أنه جاء متعجلاً لضيق الوقت، بسحب قوات النظام ووحدات أخرى مجهزة بأسلحة ثقيلة تابعة لـ«حزب الله» من محيط السويداء، ليست قوات التحالف بالطبع، فضلاً عن أنها جرت أمام أعين أهالى السويداء، ما جعلهم يتأكدون أن المجزرة جاءت انتقاماً من «الطائفة الدرزية»، لمواقف سياسية مناوئة للنظام السورى وللمحتل الروسى، كما يطلقون عليه فى مناطقهم، وقد سمعها العسكريون الروس بآذانهم، وقت أن كانوا يتفاوضون مع مشايخهم وقادة العشائر من أهالى المنطقة.