«الحماضة».. الخلاص من ظلم الوطن بـ«تقطيع البطاقة» والتنازل عن الجنسية
بدت أحداث المشهد وكأنها تجرى بالتصوير البطىء: الشيخ سليمان سلمى 32 سنة، أحد عواقل قبيلة الحماضة التى تسكن منطقة أبوزنيمة بجنوب سيناء يمد يده إلى جيب جلبابه الأبيض ويخرج بطاقته الشخصية، يرفعها فى الفراغ الذى يملأ المساحة بينه وبين عدد من أبناء القبيلة كانوا يشاركونه جلسته، ويلوح بها فتظهر منقسمة لنصفين، ثم يلقى بها على الأرض أمامه وهو يقول «خلاص البطاقات ما بقاش لها لازمة، إحنا مستغنيين عن الجنسية المصرية لو الحكومة فضلت تعاملنا بالشكل ده».
لم يكن مصير بطاقة الشيخ سليمان بأفضل من غيرها، فبطاقات أخرى كثيرة لعدد من أبناء قبيلة الحماضة وقبائل أخرى تسكن عدة مدن بمحافظة جنوب سيناء تم تسليمها فى الأسبوع الماضى لجهاز المخابرات اعتراضاً على ما أطلق عليه أبناء القبائل «سوء معاملة الجهات الأمنية لهم»، ومن لم يسلم بطاقته قام بتمزيقها مثل الشيخ سليمان، لترتفع حصيلة البطاقات المسلمة والممزقة إلى ما يقرب من 200 بطاقة لأبناء قبيلتى الحماضة والقرارشة بجنوب سيناء.
لم يكن ممكناً أن يمر حادث تسليم البطاقات مرور الكرام، على الأقل دون التفتيش فى دوافعه ومسبباته، خاصة أن الحادث تبعه حادث آخر لا يقل عنه أهمية، وهو إعلان أبناء تلك القبائل تخليهم عن جنسياتهم المصرية بعد مقتل سلمى عبدالعزيز 17 سنة الذى ينتمى لقبيلة الحماضة على يد ضابط جيش عندما كان يزود سيارته بالوقود داخل إحدى محطات البنزين بالمدينة، وما استتبع ذلك من رفض والده تلقى العزاء فيه، معلناً نيته فى الثأر ممن قتله، ثم تجمع أبناء القبيلة وشيخها فى وقفة احتجاجية فضها الأمن بالقوة مستخدماً هراواته فى تفريق المحتجين، وهى الهراوات التى لم ينج من غلظتها شيخ القبيلة فتلقى عدة ضربات على ذراعه قال إنه لا يزال يعانى منها حتى الآن.[Image_2]
فتح مقتل سلمى جرحاً غائراً فى جسد البدو يتمثل فى شعورهم الطاغى بإهمال الدولة لهم، وجاءتهم الفرصة بعد مقتل الصبى ليعرضوا همومهم ومشاكلهم، «قطّعنا البطاقات وقلنا هنروح طابا يمكن المسئولين فى مصر يحسوا بينا» يتحدث سليمان سلمى عم الصبى القتيل عن معاناة أهله من البدو. هم يسكنون بيوتاً صغيرة، وعششا من الصفيح، وخياما مصنوعة من الشعر، فى المدن التى تنتشر داخل الصحراء، تفصلها عن بعضها طرق وعرة لا تمتد إليها أيادى الأمن، يتنقلون بسياراتهم نصف النقل بسهولة ويسر، ويتواصلون سوياً عبر التليفونات المحمولة إن توافرت الخدمة، يزورون ويتزاورون وينقلون أخبار بعضهم لبعضهم. ينتمون لعدة قبائل تتفرق وتجتمع بين الجبال، يعيشون على استخراج المنجنيز والفيروز من باطن الأرض، لا يخجلون من التصريح بأن عددا منهم يعمل فى تهريب البنزين وأشياء أخرى، ويبررون ذلك بعدم توافر فرص عمل لهم.
«أنا معايا دبلوم صنايع قسم كهرباء من سنة 98، متجوز من سنة 2002 وعندى عيال، وبقالى أكتر من شهرين ما دخلش جيبى جنيه واحد»، يتحدث سليمان سلمى عن عدم توافر وظائف فى منطقة أبوزنيمة حيث يقيم مع أفراد قبيلته «قبل الثورة كنا شغالين فى السياحة فى شرم الشيخ، ولما وقفت السياحة كل الناس وقفت، وما حدش عارف هنعمل إيه السنة الجاية»، البديل عن العمل فى السياحة هو السمسرة التى يمارسها سليمان كما يقول، وإن كان يشير بطرف خفى إلى قيام البعض بتهريب البنزين «بيروح الواحد للمحطة ياخد لتر البنزين بـ 160 قرش، ويعدى بيه الحدود يبيعه بـ2 جنيه، يطلع له مكسب 600 جنيه»، والمبرر كما يسوقه سليمان «الدولة مش موفرة لنا وظايف، ومحرم علينا ندخل شركة البترول فى أبوزنيمة»، رغم أن الشركة كما يقول سليمان تقع على أراضيهم، لكن عمالها يأتون من محافظات الشرقية والإسماعيلية والسويس، وترفض إدارتها توظيف البدو من أهالى المدينة فى أقسامها.
يؤمن سليمان تماماً كما يؤمن غيره من أبناء البدو أن الدولة تتعمد إهانتهم «خلينى ماشى غلط وعايز أمشى صح، ساعدنى إنى آكل لقمة عيش نضيفة، وإلا عايز تخلينى بتاع مخدرات وحرامى»، يزداد الشعور بالظلم مع عدم توافر الخدمات الأساسية من مياه نظيفة، ووحدات سكنية ومدارس ومراكز طبية، يظهر ذلك جلياً فى مضارب القبيلة التى تبعد عن التجمع الرئيسى فى مدينة أبوزنيمة قرابة الخمسين كيلومترا. رحلة قاسية تقطعها سيارة نصف نقل تغادر المدينة فتسير قليلاً على الطريق الممهد قبل أن تعرج إلى الصحراء عبر مدق صخرى يخترق جبالاً مهيبة تكاد تطبق على القادمين. تسير السيارة بسهولة ويسر بالرغم من عدم استواء الطريق، بفضل مهارة قائدها الذى بدا أنه يحفظ الطريق عن ظهر قلب. تمر السيارة فى طريقها على معبد سرابيط الخادم الذى شيده الملك سنوسرت الأول من ملوك الأسرة الثانية عشرة قبل آلاف السنين مع بداية تنقيب قدماء المصريين عن الذهب والفيروز فى سيناء، ومن سرابيط الخادم إلى وادى بعبع ثم قرية دبى فوادى النصب تتهادى السيارة حتى تحط الرحال أخيراً فى وادى اللحيان حيث يسكن شيخ قبيلة الحماضة.[Image_3]
يجلس الشيخ عيد سليمان الروبيقى شيخ قبيلة الحماضة داخل حوش متواضع على كليم صوف أمام راكية نار مدفون فيها حتى المنتصف براد شاى يتطاير بخاره فى إلحاح متواصل. يمد بصره فى اتجاه المنازل القصيرة وعشش الصفيح التى يسكنها عدد من أفراد قبيلته ويشير إليهم قائلاً «الناس هجت من قلة المية، كانوا زمان حوالى 4000 واحد، دلوقت ما يكملوش 2000». لا تتوافر المياه النظيفة للشرب بسهولة فى مضارب البدو بالصحراء «الرى بتبعت لنا عربية مية كل شهر أو 15 يوم لما ييجى دورنا، بنشتريها بـ 10 جنيه، وندفع 20 جنيه للسواق»، أما الكهرباء «بتيجى 6 ساعات كل يوم، ساعتين بالنهار، و4 ساعات فى الليل»، والرعاية الصحية «أقرب مركز طبى فى أبوزنيمة على بعد 50 كيلو واللى يتعب ممكن يموت قبل ما يوصل هناك»، ولا يختلف الحال كثيراً عند الحديث عن المدارس التى تنعدم، وفرص العمل التى تنقطع الأمر الذى يدفع الشيخ عيد للتعليق قائلاً «الحكومة بتوفر كل حاجة لكن بالاسم بس».
ورغم أن الشيخ عيد يعترف بقلة الخدمات التى توفرها الدولة، كما يعترف بسوء معاملة بعض الأجهزة الأمنية للبدو، ولا يخفى وجع ذراعه التى أصابتها هراوات الجيش أثناء اشتراكه فى المظاهرة التى أعقبت مقتل «سلمى»، فإنه لا يتفق مع أبناء قبيلته الذين قرروا تسليم بطاقاتهم للمخابرات «أنا مش مقتنع بالكلام ده، ومش قادر أفهم حكاية واحد يفرط فى بطاقته ويقول مش عايز الجنسية المصرية»، فعلى حد تعبيره «القوات المسلحة درع الوطن، ولو فيها حد غلط يتحاسب، لكن ما ناخدش الكل بذنب البعض».
يختلف أبناء القبيلة مع شيخهم، ويتعاملون مع تصريحاته بحساسية شديدة، فهو كما يقولون «معيّن من الحكومة»، وحتى رأيه فى القوات المسلحة يعارضونه، فيرى محمود سلمى 35 سنة أحد عواقل القبيلة أن القوات المسلحة أخطأت فى حق البدو، وردت جميلهم الذى أسدوه إليها أثناء الحروب مع إسرائيل بما لم يكونوا يتوقعونه «ساندنا الجيش وقت الحرب، وكان البدو بيخبوهم مع الحريم جوه البيوت عشان الكوماندوز الإسرائيلى ما يقبضش عليهم، وما كناش نتوقع منهم اللى عملوه معانا».
يروى محمود حكايات كثيرة عن مساندة البدو للقوات المسلحة فى أعوام 67، و73، وتلك التى سبقت «الفصل» أو تحرير سيناء «كنا بندلهم على المية فى الصحراء، ونهربهم من الوديان، ونساعدهم لغاية ما يعدوا جوة مصر»، يعرض محمود صورة قديمة داخل برواز زجاجى لعدد من مشايخ البدو مع ضباط جيش، يشير للصورة ويقول «دى صورة أبويا مع الظباط قبل الفصل»، يزعجه رمى البدو بالخيانة، والمقولة التى تتردد كثيراً «البدو خدوا سلاح العساكر بشربة مية»، وعندما يتلفت حوله لا يجد من يدافع عنهم «ما عندناش قناة بتعبر عنا، ولا حد بينقل همومنا، وبنحاول نجمع الشباب ونقعد مع بعض كل فترة عشان نحدد مطالبنا ونرفعها لشيخ القبيلة».
ومطالب شباب القبيلة تكاد تنحصر فى فرصة عمل جيدة، أو ما عبر عنه سالم عودة 28 سنة قائلاً «نفسى أشتغل فى شركة البترول»، يروى سالم حكايته مع الشركة بقوله «أنا معايا دبلوم صنايع، وقدمت فى الشركة عشان اشتغل، بعتونى مقر الشركة فى المعادى فى القاهرة 15 مرة، وفى الآخر قالوا لى ما فيش غير وظيفة فى النضافة تقف وتمسك مقشة». يتوقف سالم قليلاً ثم يعود مرة أخرى «أنا عايز أشتغل فنى وأتدرب فى الشركة، وده حقى ما دمت متعلم».
تزداد الغصة فى حلق أبناء مدينة أبوزنيمة من شركة البترول مع معاناتهم من الأضرار التى يسببها وجود شركة بترول على أراضيهم «بنشم جاز على طول فى الهوا» يقول سالم، «والشجر بيبقى عليه طبقة زيت» يواصل، «وبعد كده لما يشغلوا يجيبوا ناس من السويس والإسماعيلية ويرفضوا يشغلوا البدو» يتحسر.
لا تنتهى مشكلات بدو أبوزنيمة عند ذلك الحد، فلا يمر يوم دون أن تحدث اشتباكات بينهم وبين الشرطة أو الجيش، يلتهب الوضع وينذر بالانفجار، ولا أحد يتصدى لينزع الفتيل وينقذ ما يمكن إنقاذه.
أخبار متعلقة:
«البطاقة المصرية».. حلم مفقود.. وورقة ممزقة فى سيناء
«العزازمة».. ولاؤهم لمصر وإن منحتهم اعترافا منقوصا و«تذكرة مرور» وخانة «غير معين الجنسية»