«تشجيع الفوضى» فى البلدان المنافسة سياسة استعمارية سنّها هنرى بالمرستون (رئيس وزراء بريطانيا فى بداية النصف الثانى من القرن التاسع عشر، تحديداً عام 1855) فى تشريعات حملت اسمه «تشريعات بالمرستون» والتى تقضى بتشجيع «الفوضويين» -هكذا كانت تسمية المعارضين لأنظمة الحكم فى بلدان أوروبا- كون ذلك يُكسب بريطانيا وضعاً مميزاً إذا هى وظفت عناصر التحريض فى كل بلد من بلدان أوروبا لتحقيق مصالح بريطانيا العظمى.
احتاجت بريطانيا وقتها هذه «التشريعات» فى إدارة الصراع مع فرنسا وروسيا وإيطاليا وغيرها من دول أوروبا على المستعمرات. وحدث عندما تسلم دزرائيلى رئاسة الحكومة البريطانية أن أُلقيت قنبلة على نابليون الثالث، وتبين من فحص السلطات الفرنسية لها أنها «صُنعت فى بريطانيا».
لم يكن إذن طرح «الفوضى الخلاقة» كـ«سياسة» -من جانب إدارة الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش (2002- 2008) ووزيرة خارجيته فى ولايته الثانية كوندوليزا رايس وتبنى خلفه باراك أوباما (2008 - وحتى الآن) لها- جديداً على ساحة العلاقات والصراعات الدولية؛ بل تطويراً لتشريعات بالمرستون، لكن هذه المرة تحت مظلة «تشجيع الديمقراطية».. وسواء فى الدول المنافسة (كروسيا والصين) أو الحليفة (كمصر وغيرها) كون ذلك يحقق مصالح الولايات المتحدة الأمريكية فى مكافحة الاستبداد والإرهاب!! إذا هى وظفت العناصر الطامحة للتغيير والحرية والديمقراطية فى كل بلد لتحقيق مصالحها.
ولم تكن الفوضى الخلاقة تطويراً فقط لـ«تشريعات بالمرستون» بل تطويراً للسياسة الأمريكية ذاتها خصوصاً فى الدول الحليفة، فهذه السياسة تعتمد إيجاد جماعات مصالح ترتبط مصالحها الاقتصادية بمصالح بالولايات المتحدة فتصبح هذه الجماعات فى بلدانها -وهى تحمى مصالحها- خط الدفاع الأول (فى الداخل) عن المصالح الأمريكية؛ ولمصر تجربة ثرية فى هذا المقام منذ تبنى الرئيس الراحل أنور السادات عام 1974 «سياسة الانفتاح الاقتصادى».
جديد هذه السياسة (الفوضى الخلاقة) هو الحفاظ على الدول الحليفة كذلك حفظاً للمصالح الأمريكية فى مواجهة غضب شعوب هذه الدول من أنظمة تابعة للولايات المتحدة وتحكم شعوبها بالقمع والاستبداد وأفشت الفساد والفقر بينهم.. فجاءت الفوضى الخلاقة كسياسة وقائية استباقاً لسقوط الأنظمة الحليفة واستعداداً لما بعد سقوطها (تجهيز البديل) بقطع الطريق على ثورات فى بعض البلدان تطيح بالأنظمة التابعة لها وقد تأتى بأنظمة وبحكومات وسياسات معادية للمصالح الأمريكية، وذلك عبر تشجيع بعض العناصر الطامحة للحرية والعدالة الاجتماعية وبتنظيمها وتمويلها وتدريبها كجماعات مصالح إضافية إلى جانب جماعات المصالح الاقتصادية لحماية المصالح الأمريكية تحت مظلة تشجيع الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدنى وكجماعات ضغط على النظام الجديد لمنعه من الخروج وإجباره على البقاء فى بيت الطاعة الأمريكى.
ما شاهدناه مجدداً يوم الثلاثاء الماضى (19 نوفمبر) فى إحياء الذكرى الثانية لأحداث شارع محمد محمود وميدان التحرير يُعد أحد تطبيقات «جماعات الضغط» باستخدام -أو التهديد باستخدام- الفوضى التى بدأت بشائرها بعد شهر ونصف من تنحى الرئيس الأسبق حسنى مبارك فى فبراير 2011.
جاءت تلك الأحداث مجدداً ضمن توقعاتنا فى المقال السابق بأن تشهد البلاد موجة جديدة من موجات الإرهاب والاغتيالات والفوضى رداً على توجهات السياسة المصرية نحو الخروج من بيت الطاعة الأمريكى والتوجه شرقاً نحو روسيا والصين.
ومن المدهش أن بعض العناصر من تيارات يسارية -يضاف إليها فلول جماعة الإخوان- انخرطت فى تنفيذ هذه السياسة، فالمتطرفون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار غالباً ما يلتقون.
لكن ليس مدهشاً ولا غريباً أن ترفض ما يسمى بـ«قوى ثورية» تشكيل حزب أو أحزاب سياسية جديدة أو الانخراط فى أحزاب سياسية قائمة، فالحزب يعنى برنامجاً وسياسة والتزاماً بالقانون، تشدداً ومرونة، صراعاً سياسياً وتفاوضاً، ومن قبل يعنى تحديد حجم التأييد الشعبى لبرنامجها وقياداتها، أما البعض فيفضلها «ثورية» إلى ما لا نهاية حتى لو أدى ذلك إلى انهيار مؤسسات الدولة حتى والبلاد تواجه إرهاب تنظيم القاعدة والجماعات التكفيرية، متحرراً من أى قيد لكى يستطيع أن يتحدث باسم الشعب ويدّعى تمثيله من دون قياس لحجمه أو وزنه الحقيقى لنفسه أو لتياره فى الشارع، وأن يمارس الفوضى من دون حساب، وأن يطرح نفسه كبطل أو «كمشروع شهيد»!
لن تستمر الفوضى كسياسة طويلاً ليس فقط بسبب عدم التجاوب الشعبى مع الدعاة إليها تحت ستار الديمقراطية ولكن أيضاً لأن مشهد حرق علم مصر خلال الأحداث لا يعبر فقط عن عدم الولاء والانتماء للوطن بل عبّر عن مشاعر يأس وإحباط تنتاب هذه القوى من فقدان التأثير فى الرأى العام، كما كان أيضاً إعلاناً عن الخروج من الجماعة الوطنية.
هناك موجة كراهية تتصاعد ضد ما تمثله 25 يناير بسبب ممارسات قوى ثورية ترفض الاعتراف بأخطاء ارتكبتها ليس أقلها وضع مصر فى قبضة فاشية دينية (جماعة الإخوان) فى أول اختبار «ديمقراطى».
فثورة الغضب التى أسقطت مبارك ترتد يوماً بعد يوم فى الاتجاه المعاكس.