عندما قطعت دول الرباعية العربية علاقاتها مع قطر يونيو 2017، وفرضت إجراءات المقاطعة، أيد «ترامب» عزلها، واعتبره «بداية النهاية» للإرهاب، لكنه أعطى إشارة لتركيا لإغاثتها، حتى لا يزعج السعودية، التى كان قد وقّع معها تواً اتفاقيات تتجاوز 460 مليار دولار.. البرلمان التركى وافق فوراً على توسيع نطاق تمركز قواته بقطر، لتنتشر على نحو يكفل حماية نظام الحمدين، وتدفقت المواد الغذائية والسلع التركية على الأسواق، لتعوض أى نقص.. عندما فرض ترامب العقوبات على تركيا، وانهارت الليرة، لم يعطِ قطر الإشارة لإغاثتها، «أردوغان» اتصل بتميم، فلم يتلق ما يريد، ولا حتى وعداً به، لأنه كان ينتظر رد واشنطن، الصحف التركية شنت هجوماً لاذعاً عليه، وعبّرت عن غضبها من صمته تجاه أزمة تعصف بالاقتصاد التركى، وترددت تسريبات حول نية تركيا سحب قواتها من قطر.. بمجرد موافقة واشنطن، تحرك تميم، ووعد بضخ 15 مليار دولار استثمارات مباشرة، بخلاف استثماراته التى تتجاوز 20 ملياراً، وحث القطريين، على شراء مئات الملايين من الليرات التركية لدعمها.
العلاقة بين واشنطن وكل من أنقرة والدوحة بالغة التعقيد، تركيا بالنسبة لأمريكا حليف مارق.. انضمت لمحور سياسى مع روسيا وإيران، تتعارض أهدافه مع مصالحها.. تعاقدت على شراء شبكة دفاع جوى روسية S-400، رغم عضويتها بالناتو.. وقامت بتفعيل مشروع السيل التركى لنقل الغاز الروسى لأوروبا، رغم إجراءات المقاطعة.. وحاربت أكراد الشمال السورى، رغم تحالفهم مع واشنطن.. وبالرغم من كل ذلك فهى بموقعها الاستراتيجى ودورها الإقليمى، حليف يستحيل الاستغناء عنه.. لذلك تفرض أمريكا عليها عقوبات ضاغطة، لتكبح جماحها، وتجبرها على الإفراج عن القس الأمريكى برونسون، وتمنعها من إفشال إجراءات المقاطعة المفروضة على إيران، بتقديم تسهيلات لبيع البترول والذهب، على نحو ما تم خلال فترات المقاطعة السابقة على توقيع الاتفاق النووى، لكن أمريكا لا تريدها عقوبات مُعَجِّزَة، تؤدى لانهيار الاقتصاد التركى، أو تدفع أنقرة إلى طلاق بائن مع واشنطن، أو الارتماء نهائياً فى أحضان موسكو، أو التجاوب المُخِل مع مبادرات صينية بدأت بزيارة 59 رجل أعمال صينياً، تتراوح ثرواتهم بين 15 و30 ملياراً، للبحث عن شراكات وفرص استثمارية جديدة، ما يفسر قبول أمريكا للدور القطرى.
العلاقات القطرية الأمريكية من جانبها تتسم بالكثير من الغموض، فهى علاقة ذات طابع استراتيجى، تلعب فيها قطر دوراً مكملاً لإسرائيل، كركائز للسياسة الأمريكية بالمنطقة، ولكن إرضاءً للسعودية، تحرص واشنطن على الإيحاء بأن قطر خارج الحظيرة الأمريكية، فالنظام تؤمّنه القوات التركية والميليشيات الإيرانية، وليست القوات الأمريكية بقاعدة العديد!!، وقطر تدعم تركيا ضد العقوبات الأمريكية.. مسرحية أخرجتها واشنطن، ليصدقها البعض، حمايةً لحليفتيها «قطر وتركيا» اللتين نفذتا خطة الفوضى الخلاقة بالتعاون مع إسرائيل منذ 2006، ليسقطوا كل الأنظمة المعادية للغرب بالمنطقة، ويقسّموا دولها، ويحولوها إلى خرائب.. اللعبة السياسية الأمريكية أسوأ من أن نفترض فيها حسن النية.
***
وبعيداً عن السياسة تنكبّ قطر على معالجة جراح مونديال 2022، الذى تورطت فيه بالرشاوى والفساد، وبدأت فضائحه تنتشر، وتهدد استضافتها له، قطر استهدفت من سلسلة المؤامرات والفساد التى مارستها أن يغسل المونديال صورتها الملطخة بالإرهاب، وتكتسب ثقلاً وسمعة دولية تعوض إحساسها بالضآلة، الذى لم يبدده امتلاكها واحداً من أكبر الصناديق السيادية فى العالم.. تفاصيل الفضيحة الدولية لقطر كشفتها أخيراً اعترافات جوزيف بلاتر، رئيس الاتحاد الدولى السابق لكرة القدم، فى الفصل العاشر من كتاب: «حقيقتى My Truth»: أعضاء اللجنة التنفيذية للفيفا تجاهلوا معلومات تؤكد عدم قدرة قطر على تنظيم المونديال.. «فوز قطر حدث صادم، جاء نتيجة مزيج من التواطؤ وخرق قواعد الفيفا والضغط السياسى».. ملفها كان أضعف الملفات المقدمة لتنظيم المونديال مقارنة بالمنافسين؛ أمريكا واليابان وأستراليا.. موّلت حملات تشهير ضدهم، خاصة أمريكا، باعتبارها أقوى المنافسين.. الرئيس الفرنسى السابق ساركوزى أبلغ مواطنه ميشيل بلاتينى، نائب رئيس الفيفا، رئيس الاتحاد الأوروبى السابق: «يجب أن تصوّت لصالح قطر أنت وأتباعك»، وذلك بعد مأدبة غداء جمعته بتميم ولى العهد القطرى ديسمبر 2010.. قطر خصّصت مليونى دولار لتمويل اجتماع الاتحاد الأفريقى «CAF» لكسب أصواته.
صحيفة «صانداى تايمز» البريطانية نشرت وثائق بـ«العمليات القذرة» التى نفذتها قطر ضد أمريكا؛ دفعت رشاوى لإعلاميين ومدونين لمعارضة استضافة بلادهم للمونديال بحجة الأوضاع الاقتصادية.. موّلت جماعة ضغط لتقديم مشروع قانون للكونجرس الأمريكى يدعو لصرف الأموال المخصّصة للمونديال على المدارس الرياضية.. القطرى محمد بن همام، الرئيس السابق للاتحاد الآسيوى، قدم رشاوى أوقف بسببها مدى الحياة.. «كون كوجلان» المحلل العسكرى لصحيفة «ديلى تلجراف» اتهم قطر بتمويل الإرهابيين الذين قاموا بتفجير «مانشستر»، وسخر من أن تنظيم قطر للمونديال لا يستبعد معه أن تكون إحدى أهم المواجهات المهمة فيه بين فريقى «داعش» و«القاعدة»، «ديانا مارسليك» الكاتبة الأمريكية أكدت أن شركة «بى إل جى» للعلاقات العامة شنت حملة بتمويل قطرى، لتشويه منافسيها، والقضاء على فرصهم فى استضافة مونديال 2022.. يبدو أن السحر قد انقلب أخيراً على الساحر.
الجمعية العامة للفيفا التى انعقدت بموسكو قبل انطلاق المونديال، سبقتها تحركات وضغوط أوروبية لإعادة التصويت على مونديال 2022، وإسناد تنظيمه للولايات المتحدة أو إنجلترا، ولكن مجلة فوكس الألمانية أكدت تأجيل القرار لنهاية الصيف، ألمانيا وبريطانيا تتحمسان لسحب الاستضافة من الدوحة، وهو إجراء تسمح به المادة 85 من ميثاق الفيفا، طالما هناك ظروف طارئة، تتعلق بالتهديدات المحتملة لأرواح اللاعبين والمشجعين، فى دولة ثبت أنها معقل للإرهاب والتطرف.. وهناك سوابق لذلك، عندما تم اختيار المكسيك بدلاً من كولومبيا لتنظيم مونديال 1986، بسبب ظروفها الاقتصادية الصعبة.
***
قطر وتركيا تمثلان أخطر محاور العداء لأمن مصر القومى، رغم ذلك تخرج علينا محافظة الأقصر باتفاق مع الخطوط الجوية التركية يسمح بتسيير رحلات منتظمة من استانبول للمحافظة، ما قد يمكّنها بسياستها السعرية من سحب حصة من ركاب شركتنا الوطنية القادمين من تركيا وبعض الدول الأوروبية المجاورة لها.. الاتفاق يتسم بقصر النظر، يفتقد للمواءمة السياسية، ويعطى أولوية لصالح محافظة، بمعزل عن مصلحة الوطن ككل، ما يفرض التصحيح، ومراجعة مختلف صور التعاون مع تركيا تجنباً لإعطائها مميزات لا تتناسب والعلاقات السياسية الراهنة.