القهر ينتقل مع الموظفين إلى منازلهم.. ويصيب «العاملات» بـ«الضغط والسكر» لأنهن يكتمن مشاعرهن
ضغط وقهر العمل يوقفان الإبداع
لم يفلح فنجان القهوة الذى تجرعته كالدواء، صباحاً، فى تهدئتها أو إعادة تركيزها أو تخدير ذهنها المثقل بالأفكار. ضغط عصبى تتعرض له يومياً بسبب التمييز الذى تشعر به فى العمل كونها امرأة وأماً لـ4 أطفال، فإنجاب كل واحد منهم كان سبباً فى حرمانها من ترقية وما يتبعها من زيادة فى المرتب. بعض الضغوط يمكن تحملها، لكن ماذا عن التهديدات المستمرة لها من رئيسها بإقالتها حال ارتكابها أى خطأ؟
تعمل أمانى سيد أحمد، محاسبة بشركة خاصة. وذات مرة هددها رئيسها بطردها من العمل إن لم يصل «إيميل» خاص بعميل للشركة خلال ١٠ دقائق، وعن ذلك تقول: «كنت بسابق الزمن عشان أخلص شغل العميل وأبعت الميل لرئيس الشركة. الضغط خلانى أفقد أعصابى، فلما روّحت فشيت غلى فى العيال». القهر والضغط اللذان تتعرض لهما فى العمل، يدفعانها لممارسته فى البيت، إما بالتشاجر مع زوجها أو العنف مع أطفالها، وهو ما يُعرف فى علم النفس بـ«الإزاحة النفسية»، وتروى «أمانى» موقفاً تعرضت له فى العمل: «مرة عميل ماكانش راضى عن شغل الشركة، علّا صوته وقال حسبى الله ونعم الوكيل. غلى الدم فى عروقى وقلت له انت بتحسبن عليا، وطبعاً المدير سمع صوتنا وكان يوم..».
ماذا عن ختام ذلك اليوم المشهود فى منزل «أمانى»؟.. «نسيت ميعاد ابنى فى الحضانة، كلمت جوزى عشان يلحق يجيبه قال لى: لو مارُحتيش جبتى الواد هقول لك كلمتين أخليكى تولدى وانتى واقفة»، حيث كانت حينها فى الشهر التاسع وعلى وشك إنجاب طفلتها الرابعة.
فى كتابه «التخلف الاجتماعى.. مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور»، تحدث الدكتور مصطفى حجازى فى أحد فصوله عن إزاحة القهر، وكيفية تعامل الإنسان المقهور أمام القوى التى تتسلط عليه، وحسب تأكيده فإن ما يلقاه من مهانة وما يفرض عليه من تبعية، يعود فيمارسه على زوجته ونساء أسرته.
فى أحد أيام يوليو الحار، جلس «محمود» فى مكتبه بإحدى الإدارات الحكومية بشارع نوال بالعجوزة. غرفة خانقة مكدسة بالمكاتب المتجاورة، ورغم المراوح الكهربائية التى لا تتوقف عن الدوران فوق رؤوس الموظفين، فإن صهد الحرارة المرتفعة يخنق الجميع، وقتها بدا الضيق الشديد على وجه «محمود»، إثر توبيخ رئيسه له وخصم يومين من راتبه: «أى موظف حكومى بيتعرض لقهر وضغط، إحنا بنشتغل فى ظروف عمل مش مشجعة والبيئة زى الزفت، غصب عنى بروّح متضايق ومش طايق حد». الغضب المشحون فى نفس «محمود»، دائماً ما يفرغه فى زوجته التى لا تكف عن الشكوى: «أنا أكتر حاجة تضايقنى الخصم من المرتب، أنا باقبض كام يعنى عشان يتخصم لى كل شوية؟!».
«أمانى»: ضغوط الشغل تجعلنى «أفش غِلِّى فى عيالى».. ومرة نسيت أجيب ابنى من الحضانة.. و«طبيب»: جرائم الآباء ضد الأبناء «إزاحة نفسية» لظلم العمل
التحلى بالصبر هو أبرز صفات وفاء حلمى، 50 عاماً، أثناء تعاملها مع رئيسها فى العمل، فعملها كمشرفة فى مدرسة خاصة بالمهندسين، أكسبها خبرة التعامل مع المديرين حيث تتغير الإدارة كل عام، لكن ذلك لا يمنعها من التنفيس عن نفسها بالبكاء حال تعرضها لظلم: «مافيش شغل مافيهوش ضغط، أنا بس اللى بتحمل عشان الدنيا تمشى، وعشان ماروَّحش متضايقة وأعامل ولادى بطريقة وحشة، باقعد مع نفسى وأعيط لحد ما قلبى يتفطر، وبعدها أروح ولا كأن حاجة حصلت عشان أتابع طلبات بيتى».
«وفاء» أم لـ3 أبناء فى مراحل دراسية مختلفة، ابتدائى، إعدادى، ثانوى: «طبيعة شغلى بتخلينى دايماً مضغوطة ومرهقة، باشتغل فى مبنى البنات ودول مشاكلهم كتير، وأى حاجة تحصل بتبقى مسئوليتى، بقالى 20 سنة فى المهنة دى، وباعرف كويس أتعامل مع الضغط النفسى اللى باتعرض له، إما بالاستغفار أو بالعياط».
إزاحة القهر من الموظف إلى زوجته ومن الزوجة إلى الأولاد، مرض نفسى نبه إليه الدكتور محمد المهدى، استشارى الطب النفسى، فتعرض الموظف لقهر وظلم مستمرين فى مكان العمل دون أن يكون له مخرج بالشكوى أو التظلم العادل، يؤدى إلى قيامه بقهر زوجته فى البيت وقد ينتقل القهر من الزوجة إلى أبنائها: «ما يحدث فى الفترة الأخيرة من جرائم يرتكبها الآباء ضد الأبناء هو أحد أشكال الإزاحة النفسية التى يتعرض لها الموظف فى عمله».
ولفت «المهدى» إلى أن المرأة العاملة أكثر عرضة للشعور بالقهر لإحساسها بأنها الكيان الأضعف، لكونها موظفة تُقهر فى العمل وزوجة تُقهر فى البيت: «المرأة مختلفة عن الرجل فى أنها تمتص جزءاً كبيراً من غضبها ما يؤدى إلى إصابتها بأمراض عضوية مثل ارتفاع الضغط والسكر وآلام روماتيزمية بخلاف الاضطرابات النفسية».