تتصاعد شدة رياح الحرب التجارية العالمية التى حذرنا من مخاطرها قبل شهور، عندما رصدنا ظاهرة العقوبة التجارية التى تقوم بها دولة ضد أخرى، مصحوبة بإجراءات مؤسسية لها طابع دولى وسياسى، تحوّل العقوبة إلى عقوبة دولية، تشارك فيها دول ومؤسسات مالية ومنظمات دولية.. فوجدنا نماذج واضحة فى عقوبة أمريكا لإيران وتركيا، التى نتج عنها أن هوَت العملة فى كل منهما إلى الحضيض.. وما تلا ذلك من خلافات تجارية بين دول أوروبا وأمريكا، ثم بين أمريكا والصين، على خلفية زيادة الضرائب على الألومنيوم والصلب لصالح أعمال الخزانة الأمريكية.. ونعيش هذه الأيام حالة توتر بين بكين وواشنطن على خلفية زيادة الضرائب 10% على بعض المستورد من السلع الصينية لأمريكا، وزيادة مماثلة على بعض السلع الأمريكية المستوردة للصين، مع تصاعد الضريبة إلى 25% مع بداية العام فى أمريكا، وتوعّد صينى بالرد بالمثل!
والخطير هنا أن الصين لجأت إلى منظمة التجارة العالمية، لتشكو أمريكا قبل شهرين، فردّت الإدارة الأمريكية بالتهديد بالانسحاب من المنظمة العالمية إذا تدخلت وقبلت الشكوى.. ولم نسمع خبراً من المنظمة العالمية. ويومياً تتوالى أخبار عن شركات أوروبية أوقفت عملها مع إيران، حرصاً على وجودها فى السوق الأمريكية. وألمانيا تبحث مع دول أوروبا كيفية التعاملات المالية مع إيران بعيداً عن الحظر الأمريكى ودون إغضاب الأمريكان من الأوروبيين.
والإشكالية الحادة التى تهدد حرية السوق التى تمثل جوهر الفكر الرأسمالى، أن الدول التى كانت تفرض ضرائب عالية على السلع الواردة وتغلق السوق على منتجاتها فقط كانت تتهم بالشيوعية والسوق المغلقة.. فكيف أصبحنا اليوم نواجه نفس الحالة فى دول من كبار الدول الرأسمالية شرقاً وغرباً!
والأخطر أن قطاعات ضخمة من المنتجين، وبخاصة المزارعون فى بريطانيا ودول أوروبا وأمريكا والصين وغيرها، تصاعدت شكاواهم من الأسعار المنتظرة والضرائب القادمة، فضلاً عن شركات متنوعة مهددة بتقليص الإنتاج. والمستهلكون هنا هم الحلقة الأضعف فى طاحونة زيادة الأسعار والضرائب، مع ثبات الدخول أو تراجعها فى قطاعات الإنتاج للسلع التقليدية.
والحقيقة أن من حق كل دولة أن تحدد الضرائب على السلع المستوردة، ولكن إذا كانت كبريات دول العالم الأغنى والأقوى اقتصادياً تتصارع لزيادة الموارد المالية بها بفرض الضرائب، فما مصير الدول النامية والفقيرة التى صدقت ومارست حرية السوق وخفضت الضرائب على المستورد؟!
وهل يمكن أن تؤدى الحرب التجارية المتصاعدة بين الكبار إلى صراع سياسى وعسكرى كما حدث فى الحرب العالمية الأولى التى كان أهم أسبابها تعاظم الضرائب على المستورد بين دول أوروبا ومستعمراتها فى أفريقيا وآسيا وأمريكا؟!
إننا أمام سيناريوهات عديدة، تلعب فيها المصالح والتضاغطات السياسية الدور الرئيسى فى رسم خريطة القوة فى العالم خلال الأعوام القليلة القادمة، ويبدو أن المستهلكين هم الخاسر الأول فى الحرب التجارية المتصاعدة.
ندعو الله للعالم بالسلامة.. والله غالب.