دخول المؤسسة أسهل من الخروج منها: ليه يا زمان.. ماسبتناش أبرياء
بدر مبروك
لم تجد تغريد أحمد، 25 عاماً، حرجاً فى أن تنشئ هاشتاج #مايهمنيش على مواقع التواصل الاجتماعى، تعلن من خلاله استنكارها لنظرة المجتمع المحيط لها لمجرد أنها نشأت وتربت فى دار لرعاية الأيتام، وتتعرض بشكل يومى لإيذاءات نفسية وتنمر من جراء ذلك، فنفست عن غضبها من تلك النظرة عبر الهاشتاج، التحقت «تغريد» بمعهد منشآت بحرية بعدما تخرجت من الثانوى الصناعى، وتستعد حالياً للالتحاق بكلية فنون جميلة نظراً لموهبتها الكبيرة فى الرسم، وهو الأمر الذى ناشدت بشأنه وزارة التضامن مراراً وتكراراً لتيسيره.
«تغريد» تحدت النظرة الدونية فدشنت هاشتاج على «الفيس بوك»: «مايهمنيش»
نشأت فى إحدى دور الرعاية الخاصة بالبنات بمحافظة الإسماعيلية، مكونة من شقتين إحداهما للكبار والأخرى للأطفال، مع مبنى لاحق للرضع، اعتادت منذ صغرها على الذهاب إلى مدرسة حكومية بالقرب من الدار، وبعدها تمكث بصحبة المشرفات للمذاكرة فى حلقة تضم نحو 20 بنتاً، ثم يأتى ميعاد جلسة التقويم التى يتم خلالها استعراض السلوكيات الصادرة من البنات سواء الجيدة منها والثناء على أصحابها أو السيئة منها وتحذير مرتكبيها، رغم ذلك لا تنسى من أساء إليها من العاملين بالدار الذين يتغيرون كل فترة من الزمن، فهناك إحدى المشرفات التى أيقظتها ذات مرة بوضع الشطة فى عينيها، بحجة أن نومها ثقيل، وهناك أحد الأطباء النفسيين المنتدبين خلال جلسة فضفضة معه قائلة: «أنا بحسبن على أى حد أذانى»، فرد قائلاً: «المفروض تحسبنى على أبوكى وأمك اللى رموكى فى الشارع، أمال إحنا جبناكى منين»، فنزل عليها كلامه كالصاعقة، ولم تصدق حينها أنها تتحدث مع طبيب نفسى، فقد كان جلاداً فى حديثه معها.
تتذكر دوماً خلال فترة الامتحانات بمختلف المراحل الدراسية، عندما تجد الأمهات يتزاحمن أمام أبواب اللجان لاستقبال أبنائهن والاطمئنان على أدائهن فى الاختبارات، مقابل فراغ ينتظرها هى وزميلاتها من الدار: «كنت ألاقى كل واحد خارج أمه مستنياه وبتطبطب عليه، وإحنا مابنلاقيش حد يسأل علينا».
«بدر» تحرر من اللعنة ونجح فى حياته العملية ويسعى لأن يصبح مصوراً سينمائياً
كانت تشتاق لمعرفة والديها، إلا أنها حلمت ذات مرة بأن والديها جاءا إلى الدار لاصطحابها للعيش معهما، لكنها رفضت الانتقال معهما، فنشأتها الوحيدة جعلتها تعتاد الأمر، لكنها لا تستطيع تخطى الإهانات المتكررة التى تتعرض لها من قبَل المحيطين: «كانت صاحبتى جداً، ولما اختلفنا فى أمر ما، لقيتها بتقولى بمنتهى الفظاظة، انتى نسيتى نفسك انتى من فين، وقفلت فى وشى التليفون»، تتساءل دوماً ماذا فعلت أنا لأستقبل كل ذلك: «لا عملت حاجة غلط، ولا بشرب مخدرات مثلاً، ولا بأذى حد، أنا حتى ما بشتمش، نشأتى فى ملجأ ده مش ذنبى».
لم تسلم حياتها العاطفية من التعقيدات بسبب الأمر ذاته: «حبيت مرتين واتفشكلوا بسبب إنى من دار أيتام»، فى بداية الأمر يتشدق الطرف الآخر بعبارات مثل «ظروفك ما تهمنيش»، «الرأى رأيى وهقنع أهلى»، «لو ما وافقوش مش هستسلم وهكلمهم تانى»، وفى نهاية المطاف يسدل ستار النهاية مع عبارة «أهلى رافضين، وكل شىء قسمة ونصيب»، وتكرر الموقف ذاته مرة أخرى: «المرة التانية قعدت مع مامته، لكن اتعالت عليا جداً فى الكلام، وجرحتنى قوى، وتعبت نفسياً بعدها»، تطاردها دوماً الجملة القاسية «عيالك هيتعايروا إن مامتهم من ملجأ».
تمتد معاناتها بعد سن الرشد فى إيجاد وظيفة ومسكن مستقلين: «لما أقدم فى شغل أو أى خطوة حباها، يقولولى إحنا اللى عندنا أهل ما اتقبلناش، انتى هتتقبلى؟!»، تخشى من المستقبل وتستعرض قصة أخت لها فى الدار تزوجت مريضاً بالصرع كان يشبعها ضرباً يومياً وعندما لجأت للدار رفضوا استقبالها، فاحتضنتها إحدى الأمهات البديلات بشكل خاص.
تتمنى توفير وظائف وسكن كريم للأيتام بعد سن 21، والتركيز على التأهيل النفسى داخل دور رعاية الأيتام لأنه مهمل رغم أهميته البالغة، كما تحلم باللحظة التى يقيمها الآخرون بناءً على أفعالها وليس على طريقة أو مكان نشأتها.
يحلم من صغره أن يصبح ممثلاً ومخرجاً، ولم تمنعه نشأته فى دار أيتام من أن يطارد حلمه، لكنه رفض من قبَل أكاديمية الفنون، وانطفأ حينها حلمه، لكنه توهج ثانية بعدما التحق بإحدى الدورات التدريبية لتعليم التصوير الفوتوغرافى، فطلب من المدرب أن يعمل مساعداً له دون مقابل مادى ليتعلم كل تفاصيل تلك المهنة، تطور الحال بـ«بدر مبروك»، حتى أصبح يصور لقاءات ومؤتمرات وإعلانات لماركات عالمية باحترافية، ثم بدأ يهتم بالتصوير السينمائى ليحقق حلمه فى أن يصبح ممثلاً سينمائياً شهيراً.
يشعر «بدر» بالامتنان لحظه الجيد فى أنه تربى فى إحدى الدور التى كانت توفر اهتماماً بالغاً بالأطفال: «باحمد ربنا إنى نشأت فى مكان كويس، كنا بنتمرن سباحة وكاراتيه وكونغ فو ورسم وبيانو وكل ده ساعدنى فى تكوين شخصيتى حالياً».
لكن هذا لا يمنعه من تذكر المواقف المحرجة التى تعرض لها من خارج الدار: «كان مدرس الفصل فى المدرسة بيسألنى على حاجة، وفجأة قال بصوت عالى وسط زمايلى انتوا بقى الستة اليتامى، كنت فى ثانوى ومش معرف حد الموضوع ده»، بعدها لجأ «بدر» إلى مواقع التواصل الاجتماعى للتنفيس عن غضبه وأنشأ هاشتاج #مالكش فيه، بعدها أكمل دراسته الجامعية فى نيو كايرو أكاديمى بمنطقة التجمع، وخرج من الدار فى 2015، عمره حينها 22 عاماً، انتقل للعيش فى مسكن مستقل، واستمر فى العمل على موهبته وتطويرها، وساعدته الدار فى سداد الإيجار لمدة عام كامل، ثم بدأ يعتمد على ذاته فى استيفاء كافة احتياجاته، انطلاقاً من شعوره بمساعدة الغير له فى صغره، بدأ يصور فيديوهات مجانية على موقع يوتيوب ينقل فيها كل ما تعلمه فى فنون التصوير والمونتاج والهندسة الصوتية ويبثه بشكل مجانى.
نشأ «رضا على»، من مواليد عام 1993، فى دار أيتام تابعة للجمعية الشرعية فى المعادى وكان يدرس فى الأزهر حتى الصف الأول الابتدائى، ثم التحق بدار أخرى فى عام 2000 إلى إحدى دور رعاية الأيتام بالتجمع الثالث بمنطقة القاهرة الجديدة، يراها واحدة من أفضل الدور على مستوى الجمهورية نظراً للخدمات المقدمة للأيتام فيها، وكان لذلك بالغ الأثر على شخصيته ومستقبله فيما بعد: «كانت دار كبيرة، وفيها كل الخدمات اللى ممكن تتقدم فى أى بيت، أكل وشرب وملاعب وجداول يومية ورياضة وهوايات ومدارس».
التحق خريج هندسة رقابة الجودة بالمدرسة الثانوية الفنية لمدة خمس سنوات، لينتقل بعدها إلى الفرقة الثالثة مباشرة بالجامعة العمالية، جذبه عالم التطوع، فانضم خلال دراسته الجامعية إلى جمعية «وطنية» المهتمة بتنمية وتطوير دور الأيتام: «زى ما اتقدم لى العون، حبيت إنى أساعد أنا كمان غيرى وتفضل دايرة الخير بتدور».
تغير منطق تفكيره وتوقف عن ممارسة مهنة دراسته وصب كامل اهتمامه فى العمل التطوعى: «اتحولت أحلامى واهتماماتى من التركيز على المصلحة الشخصية إلى المصلحة العامة»، واجتهد فى ذلك المجال حتى تلقى تكريماً من مكتب الأمم المتحدة للمتطوعين فى مصر، عن مجمل أعماله التطوعية كواحدة من أفضل ثلاث تجارب للتطوع، والتحق للعمل بـ«وطنية» للمساهمة فى إتاحة الفرص أمام شباب الأيتام لاكتشاف مواهبهم وتفضيلاتهم، وممارسة مختلف الهوايات ورعايتها، وتأهيلهم للاحتراف فى مجالات العمل حسب ميولهم الشخصية.
خرج «رضا» من الدار فى سن الـ20 عاماً، بعدما خاض عدة تجارب للعمل بأشغال متفرقة؛ أولها عامل بمخبز مقابل جنيهين لكل ساعة عمل، ثم موظف أمن فى شركة خاصة، وعمل بخدمة العملاء فى محل تجارى، ثم عمل بسلسلة سوبر ماركت شهيرة، وكذلك عمل بقسم المبيعات فى معرض للأثاث الفاخر، كان يحاول دائماً أن يخلق لنفسه الفرصة، ولا يدع نشأته فى دار أيتام توقفه عن تأمين مستقبل جيد وحياة كريمة: «كنت بركز إنى أوفر وظيفة كويسة ودخل كويس ودراسة كويسة ويبقالى أثر كويس، بس اكتشفت إن كل ده مش كفاية».
اصطدم «رضا» بالنظرة المجتمعية لليتيم حينما تجهز لخطبة الفتاة التى أحس تجاهها بالحب وبادلته الأمر: «والدها رفض لمجرد إنى اتربيت فى دار أيتام، ما ادانيش حتى فرصة يقعد معايا ويتعرف عليا ويقيم شخصيتى، ودى واحدة من أهم التحديات اللى بنقابلها فى المجتمع». تطارده دائماً مقولة: «ليه ما يتجوزش واحدة من نفس ظروفه»، لكنه يؤكد أن الحب والرغبة فى الارتباط بفتاة عادة ما تنشأ بشكل لا إرادى خارج التحكمات الشخصية.
لم تتوقف التحديات عند هذا الحد، فشباب الأيتام بعد خروجهم من دور الرعاية يواجهون صعوبة فى إيجاد الوظائف، وفى التأمينات الصحية، وفى تأمين المسكن، وحتى فى توفير التموين الغذائى، ويتمنى أن يصبح جسراً لإيصال صوت شباب الأيتام لمسئولى الحكومة ومحاولة حلها بالتدريج: «طالما إنك عشت التجربة، فانت أكتر واحد واعى بالتفاصيل الظاهرة والخفية فيها». يهوى «رضا» الموسيقى والتصوير والمونتاج والإخراج، ويعشق الطبخ، لذا افتتح مؤخراً مشروعه الخاص بتوفير الوجبات والأطعمة الجاهزة تحت مسمى «كده رضا».
تغريد أحمد
رضا على