نجيب محفوظ.. محاولة فهم
لعل نجيب محفوظ هو أحد أكثر الأدباء إثارة للجدل حتى بعد وفاته، فلا زال يحظى أدبه بهذه الشعبية الجارفة لاحتوائه على العديد والعديد من علامات الاستفهام التي تجعلنا نتفكر ونتوقف عندها.
وبالتأكيد فإننا يجب أن نشكر مقالات العقاد وطه حسين التي جعلت محفوظ الشاب يعدل عن قراره بالتخصص في الفلسفة الإسلامية ويتوجه إلى احتراف الأدب وكتابته.
يدين محفوظ بأدبه إلى وظيفته الحكومية الرتيبة التي جعلت حياته شبه منظمة فيقول عن هذا الأمر: "نعم أنا منظم، والسبب في ذلك بسيط، لقد عشت عمري كموظف، وأديب، ولو لم أكن موظفًا لما اتخذت النظام بعين الاعتبار، كنت فعلت ما أشاء وفي أي ساعة أشاء، لكنني في هذه الحالة كان علي الاستيقاظ في ساعة معينة، وأكون في الوظيفة في ساعة معينة، ويبقي لي في اليوم عدد ساعات معينة، فإن لم أنظم اليوم فسأفقد السيطرة عليه، لقد عودت نفسي علي عدد ساعات معينة للكتابة، في البداية كانت روحي تستجيب أحيانًا وأحيانًا لا لكنني مع الزمن اعتدت ذلك، إنني أكتب عادة عند الغروب، ولا أذكر أنني كتبت أكثر من ثلاث ساعات، في المتوسط أكتب لمدة ساعتين، أشرب في اليوم الواحد خمسة فناجين قهوة وأسهر حتى الثانية عشر ليلاً وأكتفي بخمس ساعات نوم".
سمات التنبؤ في أدب محفوظ:
على مر حياة محفوظ العامرة والتي شهدت الكثير من التغيرات في خريطة مصر السياسية، كان أدبه عامرًا بالكثير من التحذيرات ومظاهر التمرد بخلاف آرائه الشخصية، فنجده يحذر من السقوط والانهيار في روايات عدة مثل "ثرثرة فوق النيل"، "ميرامار"، "اللص والكلاب".
كل السلبيات التي حذر محفوظ من انتشارها في رواياته كانت أهم الأسباب في نكسة يونيو 67، وعلى مر العصور نجد كثير من الأدباء لديهم هذه الشفافية تجاه المستقبل فنجدها في شعر أمل دنقل وغيرهما من الأدباء الذين تنبأوا بالكثير من الأحداث.
يقول محفوظ عن هذه النقطة: "الثورة عند الأديب تبدأ في قلبه أولاً، وفي تفاعله مع الناس ثانيًا، تبدأ في إحساسه الطبيعي بالتبؤ الذي أعتقد أنه لا يوجد فنان يستحق هذا الاسم خال منه، لأن الفنان الأصيل كالحيوانات والعصافير والفيلة والنسور التي عندما تحس بخطر محدق تصدر أصواتا معينة معلنة للملأ أن خطرًا ما آت، والفنان إن لم يكن عنده هذه القدرة من الإحساس الذي يجعل أدبه في مستوي النبوءة متضمنًا دعوة إلى هذا الاتجاه أو غيره فإن أجهزته معطله أو مختلة، إن الفنان في الحقيقة لا يتنبأ إنما يحس الرؤيا.. رؤيا الواقع".
من الملاحظ أن أدب محفوظ يعج بصوت الثورة والكثير من سمات الثورة المعهودة في أي أدب واعي يرفض الظلم وينطق بالواقع، إلا أن آراء محفوظ السياسية كانت شبه معدومة ولم يكن له موقف سياسي واضح في حياته. وحينما سأله الأديب جمال الغيطاني عن التناقض ما بين أدبه وأرائه الحياتية قال: "صدق العمل الفني".
ولخص محفوظ بهذه الإجابة رأيه الكامل، فهو يترك لنفسه العنان في لحظة الكتابة التي هي أقرب للحظة تجلي، معلنًا عن موقفه السياسي بالكامل الرافض للديكتاتورية والظلم بكافة أشكاله الرافض للفساد والمهاجم له كما في العديد من روياته مثل "اللص والكلاب"، "الكرنك"، "الطريق" وغيرها.
مراحل تطور الرواية في أدب محفوظ:
مرت الرواية في أدب محفوظ بالعديد من المراحل فتارة نجد الرواية الفرعونية التاريخية، كما في "رادوبيس"، "كفاح طيبة"، "عبث الأقدار".. ثم انتقل بعدها إلى الرواية الواقعية التي تميزت بها أغلب أعماله كما في "القاهرة الجديدة"، "خان الخليلي"، "زقاق المدق" وغيرها.. خلال هذه المرحلة جرب محفوظ أشكال مختلفة من الكتابة مثل الكتابة الواقعية النفسية المعتمدة على بطل به علة نفسية معينة كما في رواية "السراب". وفي النهاية اتجه محفوظ إلى الكتابة الرمزية كما فعل في ملحمة "أولاد حارتنا" و"الحرافيش"، انتهاء إلى المرحلة المتصوفة كما في "أصداء السيرة الذاتية" و"أحلام فترة النقاهة".
منعطف تاريخي.. أولاد حارتنا:
في عام 1959 ظهرت لأول مرة رواية "أولاد حارتنا" مسلسلة في جريدة الأهرام، ومن هنا بدأت الضجة الكبرى في تاريخ محفوظ والتي لم تنته حتى اليوم. ولعل التفسيرات المباشرة للرموز الدينية في هذه الرواية هي ما أوصلتها لهذه المرحلة الخطرة وأصبحت منعطفا تاريخيا أول في حياة محفوظ، فالتفسيرات المنطقية لرموز مثل "الجبلاوي"، "أدهم"، "إدريس"، "جبل"، "رفاعة"، "قاسم" وحتى "عرفة" لها دلالات دينية واضحة علي الرموز الدينية في الثقافات المختلفة وأهمها الثقافة الإسلامية، لذا كانت الرواية صدمة عقائدية واضحة، خاصة في موت رمز الإله المتمثل في "الجبلاوي" علي يد أحد أحفاده الذي يمثل العلم والمعرفة.
الطريف في الأمر أن محاولات محفوظ لمحاكاة قصص الأنبياء موسى وعيسى ومحمد كانت ساذجة وغير موفقه إلى حد كبير لذا كانت الرواية مترهلة في منتصفها بشكل كبير بينما كانت محكمة في طرفيها خاصة قصتي "أدهم" التي تضاهي قصة آدم وقصة "عرفة" والتي هي من خيال محفوظ.. والسبب في هذا هي جزالة حكاية آدم أبو البشر المتوارثة والتي تقارب الميثولوجيا كثيرًا مقارنة بغيرها من قصص الأنبياء والتي هي أقرب للسير الشخصية أو الذاتية عن كونها حكايات وقصص.
والذي يمعن التركيز في حكاية عرفة يدرك أن الأمر أكبر من كونه انتصار العلم على الدين في إشارة واضحة بمقتل الدين بسبب جريرة العلم، ولكن عرفة الممثل للعلم كان يهدف إلى خدمة أولاد حارته وهي حركة يباركها الجبلاوي نفسه الذي أراد أن يخدم أولاده ويجعلهم يعتمدون علي أنفسهم طوال عمره.
ولعل الجريرة الأساسية هنا كانت على يد أبناء الجبلاوي المحافظون عليه أنفسهم، أولئك المنادون باسمه الذين يسلبون أولاده رفاهة عيشهم ورغد حياتهم.
والمتابع لأدب محفوظ جيدًا يجد أن هذه الرموز تتكرر بشكل أكثر حنكة في أهم رواياته علي الإطلاق وهي ملحمة "الحرافيش"، فمرة أخرى نجد الرموز نفسها ولكن بصورة أكثر إنسانية، المتمثلة في عاشور الناجي الذي وجدوه طفلاً بجوار التكية دون أب أو أم كأنه يمثل الخلاص والبراءة والقوة الغاشمة، ومرة أخرى نجد إدريس أو فلنقل كما في أحداث الرواية درويش رمز الشر الخالص، قاطع الطريق تارة و صاحب الماخور تارة أخرى.
وقد تراجع محفوظ عن روايته المثيرة للجدل بجملة تحتاج إلى تفكير عميق:
"أردت أن أوضح للناس أمرًا فلم يستوعبوه".
نوبل:
نجيب محفوظ هو الأديب العربي الوحيد الذي حصل على جائزة نوبل، وقد زاد الاهتمام العالمي بأدب الشرق الأوسط بشكل عام بعد فوزه بهذه الجائزة رفيعة المستوى. وقد حصل محفوظ على الجائزة عن مجمل أعماله مسماة في أربعة روايات كانت "أولاد حارتنا" المثيرة للجدل واحدة منهن.
محاولة اغتياله:
تعرض محفوظ عام 1995 لمحاولة اغتيال بسبب رواية "أولاد حارتنا" فقد تم اتهام محفوظ بعد أن تم نشرها مسلسلة في جريدة الأهرام بالكفر والزندقة، فقام شابين بطعنه في رقبته بسكين وهي الحادثة التي أثرت عليه كثيرا في حياته، وحينما تقرر إعدام الشابين اللذان شاركا في محاولة اغتياله قال محفوظ: "أنا غير حاقد عليهما وأتمنى لو لم يعدما".
ومن هذه الطبيعة الهادئة المتسامحة يمكننا البدء في فك شفرة أدب محفوظ الغارق في الألغاز، فربما لا يحمل الأمر كل هذا التعقيد والتفكير، ربما لو تعاملنا مع أدبه بأبسط الطرق وأرقها لفهمناها دون أرق أو تعب.
إن محفوظ الذي التزم بكلمته مع حسن صبري الخولي، الممثل الشخصي للرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ورفض نشر الرواية في مصر إلا بعد موافقة الأزهر عليها، ظل طوال عمره رافضا نشرها في مصر حتى وفاته وبعدها نجحت إحدى دور النشر الكبرى في نشر الرواية "غير الممنوعة".
متفرقات في حياة أديب نوبل:
* سمي نجيب محفوظ على اسم الطبيب الذي قام بعملية ولادته فقد كانت الولادة متعثرة، قامت بعدها والدته بتسميته نجيب محفوظ على اسم طبيب النساء والتوليد الشهير الذي قام بالعملية.
* لولا إصابته المبكرة لما حظينا قط بنجيب محفوظ الأديب ولكننا سنسمع عن لاعب قديم في صفوف نادي المختلط (الزمالك) اسمه نجيب محفوظ، حيث كان ناشئًا بين صفوفه وكان يلعب بمركز خط الوسط.
* حينما ذهب محفوظ بمخطوط روايته "بين القصرين" إلى سعيد السحار ناشره وصاحب "مكتبات مصر" قال له السحار: "إيه الداهية دي"، فأخبره أنها روايته الجديدة وقد كانت مخطوط بخط اليد يزيد عن الألف صفحة، ومن هنا جاء الاقتراح بتقسيمها إلى ثلاثة أجزاء ومن هنا اكتملت الثلاثية بـ"قصر الشوق" و"السكرية".