لا زالت تخفض صوتها حين تتحدث لإحدى صديقاتها، متصنعة تلك الدهشة عندما تقول "لا لا كيف حدث هذا"، ولا زال يخفض صوت التلفاز وينصت حتى تضيق حدقتى عيناه، وقتها تنهى هى المكالمة، معلنة عن فوزها بلعبتها المفضلة، كم تشعر بالسعادة حينما تعلم أنها لازالت تمسك بزمام عقله، مستأثرة بفكره، قادرة على إدخال وإخراج ماتريده من رسائل ومعلومات، متى تحب وكيف تشاء.
جلست بجواره متظاهره بالإنشغال.. التقطت إبرة التريكوه الموصولة بنصف سترة بنية اللون، وانهمكت فى غزل خيوطها، بادرها بسؤاله: "كنتى بتكلمى مين؟".. ابتسمت نصف ابتسامة: "دى منى صحبتى".. سككت، ولكنها لم تغير وضعيتها منتظرة السؤال التالي: "كانت بتقول لك إيه".. أراحت ظهرها للوراء وأردفت: "ولا حاجه كلام عادى"، ووضعت غزلها على الطاولة واتجهت نحو المطبخ "يلا اغسل إيدك هحط الأكل".. تأخرت كعادتها فى تقديم الطعام تفننت فى وضع الأطباق والزهور على الطاولة وغطت الطبق الرئيسى، ثم سمحت له بالجلوس وطلبت منه أن يغلق عينه حتى تكشف الغطاء وتفاجئ كثيرا وابتسم ثم قبل يدها، حينما وجد لفائف الرقاق المفضلة لديه.. أنهى طعامه مستمتعا بكل قضمة، وظلت هى ناظرة إليه، سارحة بعينه، مستمتعة بنجاح صنيعتها، وأخذت تلمم الأطباق ثم قالت: "لما يبقى عندك وقت ابقى عدى على منى فى البنك هتبعتلى ورق أمضيه"، ليرد: "حاضر من عنيا".
وفى اليوم التالى عاد إليها تغمره الفرحة.. قبلها واحتضنها: "شكرا يا ماما.. ربنا يخليكى ليا.. مش قادر أقول لك فرحت إزاى لما طنط منى قالت لى إنك دفعتى لى باقى أقساط الشقة"، لترد: "يا حبيبى أنا أدى لك عمرى كله.. إنت نور عنيا وفرحتى فى الدنيا"، ولم تكن تلك المرة الأولى التى يعلم فيها ما أعدته والدته فقد أخبرته فوق الخمس مرات أنها كسرت الوديعة البنكية لتسدد له أقساط شقتة الجديدة، التى أثقلت كاهله لارتفاع ثمنها، وفى كل مرة تنسى أنها أخبرته، وفى كل مره تريد أن تجعلها مفاجأة، وبالفعل يتفاجأ ويصطنع تلك الفرحة، تلك الفرحة التى تشعرها بأهميتها ووجودها على قيد الحياة.
لطالما حكت له حين كان صغيرا كيف كانت تفاجئ زوجها بما يحب، وكيف كانت مستأثرة بقلبه وعقله، وكيف عاشا سويا ثلاثون عاما دون أن يشعر أحدهما بالملل.. وكيف ظلت بنظره مدللته الصغيرة.. لطالما حكت له كيف كانت تتصنع المرض حتى تشعر بخوفه عليها، وكيف تحولت لوحش شرس حين إقتربت إحداهن منه، فأراد أن يكون لها العوض والسند، والأخ، والولد، كما تمنته دائما.
يتظاهر بالاستمتاع بالطعام، ولم يجرؤ على إخبارها أن معدته لم تعد تحتمل الدسم بطعامها، بل أخبرها أنها أمهر طاهية.. سمع كل الحكايات مرة.. واثنان.. وثلاثون، وفى كل مرة يندهش ويترقب.
كان اليوم هو الخميس، فأحضر معه أبنائه، كالعادة، التفوا جميهم حولها، وأخذت تقبلهم وتسأل عن أسبوعهم كيف قضوه، وبالطبع سرد كثير من الذكريات.. هنا جلس جدكم.. وهنا شربنا القهوة.. وهنا ذاكرت لأبيكم.. وهنا عاقبته وهنا.. وهنا، حتى انتهى يومها، وغالبها النعاس، هكذا باتت ليلتها، راضية عنه، داعية له، وهكذا بات مغفورا له.