مشرّدون طلقاء يثيرون الذعر فى الشوارع: مين اللى عاقل فينا.. مين مجنون؟
«فتحى» مريض نفسى يعيش فى الشارع
يسيرون بأقدام حافية، ملابس مهترئة أصبحت سوداء بفعل الاتساخ الشديد، لا يظهر منها لون ولا نقوش، شعورهم رمادية يتخللها الطين الذى يجعلها شديدة التماسك، أما اللحية فشعيراتها مبعثرة تغطى وجوههم، فتزيده سواداً على سواده. المرضى النفسيون المشردون فى الشوارع، يسيرون طلقاء فيُسبّبون حالة من الذعر لدى المواطنين المارين من أمامهم، بينما يتعرّضون للأذى من البعض، خاصة صغار السن، وعادة ما يكون «المشرد» جالساً على الرصيف أو نائماً أسفل كوبرى أو هائماً على وجهه فى دنيا الله الواسعة، دون أن يقصد وجهة محددة.
فى شوارع عدة، يلحظهم عبدالسلام مصطفى، سائق تاكسى، مؤكداً أن وجودهم زاد فى الفترة الأخيرة، خاصة فى شوارع الجيزة: «والله زادوا أوى اليومين دول فى الشوارع». يرى «عبدالسلام» أن مرضى الشوارع لهم هيئة متشابهة، ملابسهم مهترئة، ودائماً ما يجلسون واضعين بطانية على أكتافهم حتى فى عز الحر، يحكى أنه لم يكن يتخيل يوماً، أن يرى زميله على نفس الوضع، مشرّداً فى الشوارع، وتحديداً أمام وزارة الزراعة بالدقى، وذلك بعد إصابته بمرض نفسى: «اسمه فتحى، باعدى من قدامه كتير، وبالعن الزمن اللى خلاه كده، كان عاقل وسواق زينا، فجأة لاقيناه بلبسه وشكله ده فى الشارع، الله أعلم بيه وإيه اللى حصل له».
سائق تاكسى: صاحبى كان زى الفل.. فجأة لاقيته مشرد على رصيف فى الدقى.. الله أعلم حصل له إيه؟!
يفرش «فتحى» بعض أوراق الشجر على الأرض لينام فوقها، يرتدى الجاكيت الطويل رغم شدة حرارة الشمس، وجلباباً لا يتضح لونه بسبب اتساخه، يرفع يده عالياً متحدثاً بصوت منخفض وكأن هناك شخصاً أمامه، لكن لا يوجد سوى خياله. إذا مر شخص بالقرب منه، ينظر إليه محدقاً عينيه، يمد يده بتلقائية: «انت خايف تسلم عليا يا إبراهيم، خايف ليه، أنا يا ابنى ماشتمتكش إمبارح، كنت باقول لك لامؤاخذة انت رايح فين بس».
كلمات لا معنى لها ولا يفهمها المارة بالشارع، لكن «فتحى» يستمر فى الحديث بكلمات أكثر غرابة: «أنا أول خريطة مخ.. وهما اللى خدوها»، ثم يتوقف للحظات مردداً: «بتحصل مواقف بيخلوا الناس اللى لامؤاخذة، عندنا واحدة لامؤاخذة، ابنها لامؤاخذة، عملها شوية مشاكل، فبيعمل لنا مشاكل».
رغم ما يبدو عليه من حالة سيئة، سألنا «فتحى» عن أسرته، فرد: «عندى أولاد كتير أوى ماتعدش، الشعب المصرى كله مايعرفش يعد أولادى»، وعن زوجته: «أنا متزوج البيت كله من أول الخلق للخليقة»، وعن العمل: «باشتغل علشان الشباب، أنا دفعت الفلوس دى فى العالم كله، واغتالونى من زمان».. وعن العمر: «عندى تمانية واحد وستين سنة»، وينهى كلامه بعبارة «شرفت وآنست».
لا يمد يده للآخرين، يأكل ما هو موجود أمامه، أكلات جاءته من أهل الخير، «أم أحمد» بائعة الشاى بالشارع، تحن عليه أحياناً بكوب شاى: «ماباخافش منه، مش مؤذى وهادى بس ساعات بييجى له صدمة ونوبات، فبيقعد يزعق ويقول كلام مش مفهوم».
تعلم «أم أحمد» وبعض زبائنها معلومات قليلة عن «فتحى»: «كان ساكن فى العمرانية، جات له حالة نفسية خلته كده، ساعات يبقى هادى وساعات يصرخ لكن مابيؤذيش حد، ومعاه بطاقة سارية حتى 2021، مكتوب فيها اسمه بالكامل فتحى محمد بدوى نصير، ومعاه رخصة قيادة تابعة لإدارة مرور الجيزة».
قبل مطلع الدائرى بمنطقة المريوطية فيصل، لاحظ المارة منذ فترة، سير أحد الأشخاص يومياً بملابس مهترئة، يبدو فى الثلاثين من عمره، يسير بالقرب من ترعة المريوطية، يقوم ببعض الأفعال الغريبة، مرة يرفع يده عالياً ملقياً السلام والتحية رغم عدم وجود أى شخص أمامه، أحياناً يجلس على الأرض، يسير حافياً، ثم يرتدى شبشبه فى لحظات، ثم ينزعه ويسير مرة أخرى حافياً، مرة يرتل القرآن وأخرى يصمت.
بائعة شاى: «فتحى» مابيؤذيش حد.. الناس هى اللى بتؤذيه.. بس أهل الخير بيجيبوا له أكل
يمر من أمام مقهى موجود بالقرب من مطلع الدائرى، اعتاد العاملون فيه على إعطائه مياهاً وكوب شاى وسيجارة، تكثر الحكايات عنه، كل منهم يستشف حكايته ويصنع منها أحداثاً من بعض الكلمات التى يردّدها، يقول أحدهم إنه كان يسكن بيتاً فيه آثار، وبعد رحلة البحث عنها بلا جدوى جاءته أزمة نفسية وصار شريداً فى الشوارع، يقول آخر إنه حافظ للقرآن كله، ويردد البعض أنه متعلم حاصل على شهادة من أحد المعاهد.
يقول الشاب الشريد، إن اسمه عبدالفتاح أحمد حسين، ويقول أيضاً: «أنا عندى ولدين بيمثلوا، طلعوا مع عبدالحليم حافظ، أنا خريج تجارة، وكنت قاعد فى بيت خالى لكن مات، ودلوقتى ماليش أصحاب»، ثم ينظر للسيارات المارة بسرعة كبيرة، ويسير ذهاباً وعودة، ويحدّث نفسه بكلمات غير مفهومة.
فى آخر شارع فيصل، قبل مطلع الكوبرى المؤدى للجامعة، المنيل والدقى، يجلس رجل كبير السن، يسند رأسه على أحد المحال المغلقة، موجهاً نظره للشارع، وبجانبه علب طعام مفتوحة. يردد كلمات بعضها مفهوم وغيرها ليس منطقياً، يسعل وهو يقول: «اسمى صابر، لكن مسمينى رمضان»، يسكت وينظر للشارع، يبعد الأكل عنه، وبنظرة مليئة بالكراهية لكل شىء، يقول: «أنا باكره الناس، أنا ماعملتش أى حاجة لحد، روحت المرج والمؤسسة بيرمونى بالطوب». يجلس وحيداً لا يؤذى أحداً، لكنه يتعرّض للأذى، أحياناً يقذفه الصغار بالطوب وأحياناً أخرى ينادونه بالمجنون، والبطانية الوحيدة التى يملكها سرقوها منه.
كراهيته للعالم تزداد، كلما تحدث يقول: «ماباحبش الشغل، ماباحبش الجواز، ماباحبش اختلط بحد، ماباحبش الناس المجرمين، ماباحبش الأكل، نفسيتى تعبانة وبازهق بسرعة، محدش له دعوة بيا، أنا باموت فى الشارع وماباحبش غيره وبس، وماباحبش حد يصحينى من أحلاها نومة علشان أشتغل». ظهوره كان مفاجئاً فى عزبة النخل، ظهر منذ ما يقرب من شهر، كان وجهه ملتحفاً بلحية كثة، ينام على سجادة متهالكة، ويرتدى ملابس يبدو أنها لم تتغير لسنوات، لا يعرف سكان المنطقة عنه سوى أن اسمه محمد، وهناك كلمات يرددها باستمرار وكأنه يحفظها عن ظهر قلب: «حمرتى الفراخ، رجعى لى الفلوس، وأنا جاى من الفيوم».