الهجوم الإرهابى الذى استهدف أخوة أقباطاً، مطلع الشهر الحالى، خلال عودتهم من زيارة دينية إلى أحد الأديرة، جنوبى البلاد، أعاد تذكيرنا بخطر الإرهاب الذى يستفحل يوماً بعد يوم، ولا يوفر بلداً إلا ويتمكن من ضربه، مهما كانت إجراءات الأمن صارمة، والتدابير الوقائية حاضرة.
يفرض الإرهاب تحدياً خطيراً على دول العالم المختلفة، لأنه ببساطة يسلك مساراً ملتوياً، يُفقد خلاله الجيوش النظامية، وقوى الأمن المنظمة، المزايا التى تتمتع بها، إذ لا يواجهها مواجهة مباشرة، بل يستغل عيوب التنظيم وثغراته، ويستفيد من أعباء الإدارة المركزية الملقاة على عاتق قوات إنفاذ القانون، التى تحد من حركتها، وتقيد قدرتها على المبادرة والاستجابة السريعة.
فى هذا الصدد، يؤكد الباحث المرموق فرانسيس فوكوياما أن العالم قد تغير بعد سقوط برجى «مانهاتن»، بعدما رأى أن التحدى الرئيسى للعالم بعد هذا السقوط سيتمثل فى مواجهة القوة الصاعدة للتنظيمات الأقل من الدولة، والجماعات الإرهابية.
تعتمد الجماعات الإرهابية، سواء كانت ترتكز على دعاوى ذات طابع دينى أو قومى، أو تنطلق من أهداف إجرامية وفوضوية، على نمط «الحرب اللامتماثلة».
تواجه دول عديدة فى العالم، وليس مصر وحدها، خطر الإرهاب المعتمد على خصائص «الحرب اللامتماثلة»، الذى يستفيد من تلك الخصائص، ليوجه ضربات مؤلمة للبلدان التى يستهدفها.
تختلف «الحرب اللامتماثلة» عن الحروب التقليدية فى عدد من العناصر، منها ما يلى:
الجبهة: جبهة «الحرب اللامتماثلة» واسعة ومتعددة على عكس الحروب التقليدية التى يتم تعيين الجبهة فيها بإحداثيات دقيقة. وبالتالى، فقد تكون تلك الجبهة مطاراً كما حدث فى إسطنبول وبروكسل، أو مسرحاً أو ساحة احتفال كما جرى فى فرنسا، أو طائرة تطير فى الجو كما حدث مع الطائرة الروسية التى انفجرت فوق سيناء فى نوفمبر 2015، أو مركبة يستقلها عدد من المواطنين، عائدين من زيارة دينية، كما حدث فى العدوة قبل أيام.
التوقيت: الحرب التقليدية محدودة بفترة زمنية، إذ يصعب جداً تمديد زمن الحرب لأن تكلفتها عالية، لكن «الحرب اللامتماثلة» ليس لها توقيت معين، إذ يمكن أن تستمر لعقد كامل. فالعراق على سبيل المثال لم يمر عليه شهر واحد من دون عمليات إرهابية مدمرة منذ العام 2003 وحتى وقتنا هذا.
الغاية: غاية الحرب التقليدية هى دحر العدو وكسر إرادته وفرض الشروط عليه، لكن غاية الحرب «اللامتماثلة» مختلفة، ويمكن أن تكون «إنهاك العدو» فقط، ويمكن أن تتسع لتصبح «إنهاء العدو».
الوسائل: وسائل الحرب التقليدية معروفة، ومعظمها من معدات الحرب وأسلحتها، أما «الحرب اللامتماثلة» فيمكن أن تكون وسائلها البنية الأساسية، أو مواقع التواصل الاجتماعى، أو وسائل المواصلات، أو العدو نفسه.
لا يمكن للدولة الوطنية مواجهة مخاطر «الحرب اللامتماثلة» إلا بتحليل عناصرها وأدواتها، وتلك الأدوات باتت من الاتساع والتكامل لدرجة أنها تشمل الحروب التكنولوجية، والبيولوجية، والعمليات الإرهابية، وحرب العصابات، وأنشطة التواصل، وبث الدعايات، وحرف الرأى العام.
وقد ترافق صعود مفهوم «الحرب اللامتماثلة» مع بروز تهديدات «التنظيمات الأقل من الدولة»، وهى تجمعات أو عصابات مسلحة، تستهدف تحقيق مصالح سياسية، مرتكزة إلى دعاوى أيديولوجية أو عنصرية، ومستندة إلى مطالب ذات طبيعة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو معنوية.
لقد ظلت الدولة لقرون هى الفاعل الرئيس (وربما الوحيد) فى الشئون العالمية، حتى ظهر فاعلون مؤثرون آخرون، مثل المنظمات الدولية، والمجتمع المدنى، و«اللوبيات»، والشركات متعددة الجنسيات، والجماعات المسلحة، وحتى الأفراد.
فالفاعل فى المجال الدولى Actor، ظل مقتصراً على الدولة، حتى ظهر ما يُعرف بـ«القوى عبر الوطنية» Forces Transnational، أو الفاعلون الجدد من غير الدولة Non State Actors، وهو ما تجسده حالة «القاعدة»، أو «داعش»، أو «حزب الله»، أو «حزب العمال الكردستانى»، أو الشركات متعددة الجنسيات، وحتى بعض الأفراد من الفاعلين الذين يمتلكون قدرات للتأثير فى مجريات السياسات العالمية.
ولأن هذه القوى الفاعلة الجديدة تفتقد قدرات الدولة بمفهومها التقليدى، كما تفتقر إلى الاعتراف والاعتبار الدوليين، ولا تمتلك القدر الكافى من الشرعية، فإنها تلجأ إلى استخدام أساليب «الحرب اللامتماثلة» لتحقيق أهدافها.
وبالنسبة إلى الفاعلين من غير الدولة من الجماعات الإرهابية والتنظيمات غير الشرعية، فإن «الحرب اللامتماثلة» ستكون وسيلة ناجعة لتحقيق أهدافهم، بسبب طبيعة تلك الحرب، وسهولة توفير وسائلها، والصعوبة الكبيرة التى تجدها الدولة الوطنية عند مواجهتها.
تتزايد قدرات «التنظيمات الأقل من الدولة» بسبب استنادها إلى «مظلوميات» تتعلق بـ«الاغتراب والتهميش»، وتردى الخدمات، وضعف التماسك والانسجام الوطنيين فى بعض الدول، كما تستفيد من استخدامها مفاهيم أيديولوجية، بعضها ذو بعد روحى، إضافة إلى سهولة استخدام وسائط التكنولوجيا، والدعم الذى تتلقاه من دول مؤثرة فى بعض الأحيان.
وكما يرى «سيرى لونج» مدير دراسات الشرق الأوسط، فى جامعة بايلور الأمريكية، فإن «نزع الشرعية» عن دعاوى تلك التنظيمات يعد أهم وسائل مقاومتها.
لكن «نزع الشرعية عن تلك التنظيمات عبر المواجهات الدعائية لن يكون كافياً لإلحاق الهزيمة بها، إذ يتعين، فى الوقت ذاته، بذل جهود كبيرة لتوضيح تهافت الادعاءات ذات الطابع الدينى التى تستند إليها، وإثبات فساد المرتكزات الفكرية التى تتبناها، وإقناع الجمهور بتهاويها وخطلها.
إن استخدام وسائل الردع المسلحة النظامية يحقق نجاحاً فى احتواء مخاطر تلك التنظيمات أحياناً، لكن الردع التقليدى وحده يبدو غير كافٍ لحسم تلك المعارك الجديدة، وهو أمر يفرض على الدولة الوطنية تغيير أساليبها فى مواجهة تلك القوى، إذا أرادت أن تحقق النصر.
من أهم الوسائل الجديدة التى يجب أن تُستخدم فى مواجهة خطر الإرهاب الذى يستفحل على أيدى المنظمات الأقل من الدولة (مثل «داعش»)، أن يتم تجريد تلك المنظمات من ميزة «اللاتماثل».
يعنى ذلك أن تطور الدولة وحدات مكافحة إرهاب نوعية، تعمل بطريقة غير مركزية، وتعتمد أساليب أكثر جرأة، بدلاً من استخدام آليات الحشد والتعبئة النظامية التى يسهل استهدافها.
وستكون المعلومات رأس الحربة فى تلك المعركة، وليس كثافة النيران أو أعداد الجنود.