أكثر من 7 مليارات شخص هو تعداد سكان العالم.. نشأ كل منا فى ظروف معينة.. امتلأ وجدانه بقيم استقاها من مجتمعه الصغير أو الكبير.. نتحدث لغات مختلفة.. وفى عبادة الله لنا طرق ومذاهب.. تفرقنا حدود الجغرافيا والقوانين، ودائماً السياسة. شىء واحد يجمعنا هو الفنون.. القلم والفرشاة والكاميرا يقربون المسافات ويهدمون جدران الوصم والخوف والتمييز.. بالفن وحده نحكى تجاربنا الإنسانية ونمررها للآخرين فتلمس ذواتهم. هكذا ببساطة رأيت الفن، لكن عندما دُعيت لإدارة جلسة عن دور الفنون والسينما فى تشكيل وعى المجتمعات، ضمن فعاليات منتدى شباب العالم، حلّ علىّ التوتر ضيفاً ثقيلاً يأبى الرحيل، السبب أننى لم أكن أرغب أن أدير نقاشاً فارغاً من المضمون، أو أن أردد كلمات كبيرة قيلت مئات المرات تصلح للاستهلاك فى كل الأوقات، لكن قدرتها على المساس بالوعى تتساوى والعدم. باختصار، أردت أن تطلق هذه الجلسة فى صفوف جمهورها ذات التأثير الذى تطلقه الفنون من وجهة نظرى فى النفوس.. دافعاً للتغيير.
فكرت مطولاً من أين أبدأ.. ماهية الفنون؟ هل هناك ما يندرج ضمن تعريف الفن وما يخرج من نطاقه؟ علاقة الفنان بالسلطة؟ ماذا نأمل أن نغير من خلال الفنون؟ وكيف يكون هذا التغيير: مباشراً أم غير مباشر؟ فورياً أم تراكمياً؟ توالت الجدليات والإشكالات فى ذهنى، لكن السحر كله كان كامناً فى شخوص ضيوف المنصة وما حملوه فى داخلهم من تجارب.. لم أحتج لا لشرح ولا تفصيل.. كل ما كان علىّ فعله هو إفساح المجال لكل منهم يروى من هو.. أين مضت به دروب الحياة، وماذا تعلم.. كل قصة فتحت داخل وعيى باباً خفياً.. على مصراعيه.
مثلاً «أروة أبوعون» مصورة وفنانة ليبية مسلمة، تعيش فى كندا فى ظل مناخ منقسم حول وجود من هم مثلها فى المجتمعات الغربية. ترى الهويتين حاضرتين فى أعمالها بقوة، فلا هى تناست ليبيتها وصارت كندية كما يقول جواز السفر، ولا أعمالها تصور تمييزاً وعزلة وشتاتاً تنطق بها معظم أعمال فنانى المهجر. قالت لى إنها تتعرف على الإسلام أكثر كلما قرأت عن المسيحية، وبنفس المنطق اليهود يمكنهم أن يكونوا يهوداً أفضل إذا قرأوا القرآن، لأن جوهر الأديان واحد.. وإن الأفضل من أن تكون متديناً هو أن تكون إنساناً.. ولو بدوام جزئى.
«شاكر خزعل» هو الآخر كان من الممكن أن يكون رقماً إضافياً فى إحصاءات تتزايد باستمرار لأعداد اللاجئين.. واحداً من بين أكثر من 25 مليون حول العالم، لكنه صار بدلاً من ذلك أحد أكثر الرجال فى العالم تأثيراً تحت سن الأربعين بعد المبيعات الهائلة التى حققتها كتبه الأربعة التى تتناول بصورة أو بأخرى قضيته الشخصية: اللجوء. بوابة عبور شاكر خارج بنايات مخيم برج البراجنة المتلاصقة فى لبنان وطرقاته الضيقة معدومة الأفق كانت منحة للدراسة فى جامعة كندية، وتوالت النجاحات بعد ذلك. شاكر فى مقاله «دليلك للإبحار فى الحياة كلاجئ»، يقول: «عندما تكون لاجئاً.. تشح الفرص.. وتتباعد بين الواحدة والأخرى المسافات.. عليك أن تكون مستعداً متى حانت فرصة لاقتناصها.. ووقودك للاستمرار أثناء الانتظار هو الأمل». التغيير عملية ذاتية لا يستلزم أطلاقها أحياناً أكثر من فرصة واحدة.
أما «إيفان راجيرو» فأحب الرقص النقرى لدرجة أنه يمارسه بساق سليمة وأخرى صناعية، ويفعل هذا بكثير من البهجة والحب والصدق.. الأمل والإرادة اللذان نبتا مكان ساقه المبتورة ألهامنى معانى جديدة للصمود، واستمرا يذكراننى أن الحياة دائماً تمضى، مهما كان حجم الخسارة.
يقال إن المعنى فى بطن الشاعر، لهذا قد أختلف أنا وأنت عزيزى قارئ هذا المقال حول الطريقة التى يفهم بها كل منا أى أغنية موسيقية أو المعنى الذى قصده الفنان، لكننا سنتفق أن هناك معنى وقيمة فى موسيقى «هشام خرما»، وسنُجمع أنا وأنت على صدق وجمال هذا المعنى.. هشام يرفض اللهاث المحموم وراء الانتشار والمبيعات.. لهاث يحول الفن إلى تجارة الخاسر فيها جمهور يفسد ذوقه، وتتآكل قيمه الإنسانية شيئاً فشيئاً.
الإنسان هو مجموعة من التجارب المتراكمة.. وسواء أكانت التجارب ممتعة أو مؤلمة فهى السلم الذى نصعد درجاته نحو النضج والنمو والاكتمال. ما عدت به بعد تجربة المشاركة فى منتدى شباب العالم ليس فقط الخبرة المهنية المتمثلة فى إدارة إحدى الجلسات المهمة أو التراكم المعرفى بحضور ورش العمل المختلفة التى أقيمت ضمن فعاليات المنتدى.. إنما الرسائل التى تلقيت، الأشياء التى جمعت، والأشخاص الذين قابلت، وراء كل وجه حكاية، فى طيات كل قصة فلسفة حياتية.. الكنز الحقيقى كان فى الرحلة.