حينما استيقظت من نومى طوال رحلة «مصر للطيران» المتجهة إلى «جنيف»، فتحت عينى على عالم مختلف، كأننى أرتدى نظارة ثلاثية الأبعاد أمام شاشة من شاشات السينما، فنظافة الشوارع لا يمكن وصفها. «مسئول مهم سيزور المدينة وهذه ترتيبات استقباله»، قلت لنفسى! ولكن الأيام السبعة قد كشفت لى أن كل مواطن فى هذه البلاد هو شخص مهم، يستحق أن تتجمل له مدينته.
وفى نقاش جانبى مع مسئول أممى رفيع قال لى: «إن المواطن فى بلداننا العربية يحرص كل الحرص على نظافة منزله، بينما لا يهتم بنظافة الشارع»، وأرجع هذا التصرف إلى عدم شعور هذا المواطن بأن وطنه ملكه. سكت هو، بينما راحت كلماته تتردد داخل رأسى، لتصطدم بنصائح 90% من أصدقائى الذين أكدوا لى أن الفرصة قد أتت لأستقر فى بلاد جديدة وأن أهرب من جحيم التلوث والزحام، إلا أن سؤالاً ظل يُلح علىَّ: «أليس من الأفضل أن نعمل جاهدين على تغيير ثقافتنا تجاه المجتمع ومفاهيم الوطن والوطنية، وأن نجعل من بلداننا مثالاً أفضل مما نراه فى الخارج».
مشهد آخر يسر الناظرين، على كورنيش بحيرة «ليمان»، أو كما يسميها البعض بحيرة جنيف، قادنى الفضول -وبالصدفة البحتة- أن أقترب من السور لأتعرف على درجة تلوث المياه، فهالنى ما رأيت، فالقاع واضح بالعين المجردة، وحشائشه الخضراء تتنفس بحرية دون أن تخنقها مياه الصرف الصحى والزراعى أو الصناعى، ودون أن تترسب حولها بقايا الحيوانات النافقة. انقبض قلبى، وقلت فى نفسى: «كيف نعامل النيل العظيم بهذه القسوة وعدم الشعور بالمسئولية؟».
وكثيراً ما تساءلت عن شكل وطبيعة الحياة فى ما يُعرف بـ«العالم الأول»، وما الفرق بيننا كمجتمعات عربية متشابهة وبين هذه البلاد. الدعوة التى تلقيتها من مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، منحتنى فرصة التعرف عن قرب على عالم يكاد يكون مثالياً، ويطابق مدينة أفلاطون الفاضلة، فالجميع فى «جنيف» يحترمون القواعد، لا يمكن أن تتخطى إشارة المرور إذا كنت تقود سيارة، أو أن تعبر الطريق من غير المكان المخصص للمشاة إذا كنت راجلاً، وأنت فى غنى أن أخبرك بأنهم لا يلقون قمامتهم فى شوارع المدينة، يقدسون المواعيد، ويحرصون على قضاء أوقات ممتعة بعد العمل. ومن البديهى القول بأنهم لم يصلوا لهذا التحضر بين يوم وليلة، فمن المؤكد أنها تراكمات لجهود القائمين على التعليم والتربية والثقافة لعقود طويلة.
يا صديقى.. يمكنك أن تجوب «جنيف» بشبكة المواصلات الداخلية المتمثلة فى الأوتوبيس والترام والمترو بتذكرة واحدة، وعلى مدار اليوم.. اللافت أننى، وخلال 7 أيام، لم أرَ «الكمسارى» يسأل عن التذاكر، وللتدقيق أكثر، لم أره مُطلقاً، وعلى رغم ذلك يصطف الناس بطريقة أوتوماتيكية أمام ماكينة التذاكر لشرائها. قفز إلى ذهنى تساؤل: «ماذا لو كان هذا النظام مُطبقاً فى مجتمعاتنا؟»، والإجابة بكل تأكيد لا تحتاج لتفكير عميق.. فالناس هناك يدفعون مقابل كل شىء، وهم على وعى أن عدم الدفع سيؤثر سلباً على جودة الخدمة فيما بعد، لتُصبح -ربما- مثل كثير من بلادنا.
الزيارة التى كانت بغرض حضور دورة تدريبية بمقر المفوضية هى الأولى التى تنظمها الأمم المتحدة لصحفيين من العالم العربى، أضافت لى أموراً عدة، أهمها الانفتاح على الأوضاع الحقوقية ومؤشرات حرية الرأى والتعبير فى عدد من البلدان العربية التى قدم منها صحفيون على قدر كبير من الخبرة والاشتباك مع القضايا الحقوقية بأوطانهم، ثم التعرف بشكل أقرب على آليات الأمم المتحدة المتعلقة بحقوق الإنسان، وأن القيم الحقوقية ليست أجندة معادية، أو غريبة على تراثنا الضارب فى جذور التاريخ، ويكفى أن تنظر إلى تمثال «ماعت»، إلهة الحق والعدالة عند قدماء المصريين، الذى يقبع أمام مجلس حقوق الإنسان الدولى، وكأنه يخبر العالم أن بلادنا، ومنذ فجر الإنسانية، قد طبقت قيم العدالة والمساواة، وأعلت من شأن المرأة حتى صارت فى مصاف الآلهة.