أحفاد زهران يجبرون "عسكري إنجليزي" على الاختباء داخل متحف دنشواي
إدارة متحف دنشواي تضطر لإبعاد تمثال عسكري إنجليزي عن موضعه بعد تكرار قذفه بالحجارة من تلاميذ المدرسة الإبتدائية الملاصقة
يبدو المثل القائل أن "العربي أخذ ثأره بعد 40 عامًا ثم قال استعجلت"، لم يكن من قبيل المبالغة، فهنا أطفال أخذوا ثأر أجدادهم بعد 112 عامًا مرت على مذبحة دنشواي الشهيرة ولو بشكل رمزي، المذبحة التي ارتكبها جنود الاحتلال الإنجليزي، بحق فلاحي القرية الصغيرة التابعة لمركز الشهداء في محافظة المنوفية بعد أن شرع 5 من جنود الاحتلال في عام 1906 بالتنزه في ريف المنوفية بعيدا عن معسكراتهم بمنطقة سرسنا وكمشيش بكامل عتادهم وقرروا صيد الحمام من أبراج الفلاحين في الوقت التي كانت تشهد فيه القرية استعدادات موسم حصاد القمح ليخرج لهم أحد أهالي القرية، يقال إنه مؤذن القرية، لمنعهم من صيد الحمام الذي هو مصدر رزقهم وحتى لا تشتعل أجران القمح الملاصقة لأبراج الحمام.
وما كان من أحد الجنود الإنجليز إلا إطلاق أعيرة نارية باتجاه هذا الشخص ليصيب بها "أم محمد" وعيار آخر تسبب في اشتعال النيران بأجران القمح، لتبدأ ثورة أهالي القرية، بعضهم بالالتفاف حول العساكر لنزع أسلحتهم والبعض الآخر لإخماد النيران التي اشتعلت بمحصول القمح وآخريين لإسعاف ونجدة "أم محمد" وكذلك شيخ الغفر الذي أصابه عيار ناري مع اشتعال الأحداث بعد أن اعتقد الإنجليز أن الخفراء جاؤوا لمساندة الأهالي بعكس الحقيقة.
وهرب قائد الجنود بصحبة طبيب الفرقة للاستغاثة بباقي القوات المتركزة بمنطقة سرسنا وفي الطريق سقط أحدهما مغشيا عليه بسبب الإجهاد وإصابته بضربة شمس، ليساق بعد ذلك نحو 92 قرويًا إلى المحاكمة بتهمة قتل ضابط إنجليزي وكان من بينهم من حاول إنقاذة وإعطاءه الماء، وتم إثبات التهمة على 36 منهم، حيث حكم بالإعدام على 4 فلاحين وهم محمد درويش زهران الذي كان أكثرهم ثباتا عن إعدامه، وأصبح رمزا لمذبحة دنشواي، بالإضافة إلى حسن محفوظ ويوسف سليم، والسيد عيسى سالم، بالإضافة إلى الأحكام بالسجن لـ 12 آخريين بالإضافة إلى جلد المتهمين 50 جلدة أمام ذويهم حيث أجريت المحاكمة الصورية بمحكمة شبين الكوم وتم تنفيذ الأحكام أمام أهالي القرية، المكان الذي أنشئ عليه متحف دنشواي فيما بعد عام 1963 تكريمًا وتخليدًا لشهداء وضحايا المذبحة التي أصبحت فيما بعد أهم عناصر شعار محافظة المنوفية وتاريخها الذي تحول إلى العيد القومي للمحافظة".
ذاكرة وموروث لم يغيب عن الأجيال التي أعقبت المذبحة ينقلها الجد إلى الأب ومن ثم الحفيد حتى عاش على سيرتها نحو 5 آجيال متعاقبة، ليعكس ذلك ما أقدم عليه تلاميذ مدرسة دنشواي الابتدائية المشتركة، ليصبح قذف تمثال العسكري الإنجليزي في الساحة الخلفية للمتحف بالحجارة بشكل مستمر وتكراره أكثر من مرة بعد أن مكنهم المبنى الجديد بالمدرسة الذي دخل الخدمة بداية العام الدراسي الحالي من الاقتراب من التمثال الذي مثل استفزاز لهم، رغم الأزمة التي سببتها هذه الوقائع بين إدارة المتحف وإدارة المدرسة وبالرغم من التعهدات، إلا أن الأطفال يعيدون الكرة مرة أخرى بقذف تمثال العسكري الإنجليزي الذين رأوا فيه مثال للاحتلال الذي أعدم جدهم زهران ورفاقة وسجن وجلد العشرات بعد محاكمة صورية في ظل الاحتلال الإنجليزي لمصر، مما أجبر إدارة المتحف إلى تحريك تمثال العسكري الإنجليزي عن مكانه ووضعه خلف جدار في مكان يحميه من حجارة تلاميذ المدرسة الملاصقة للمتحف.
"3 جنيهات فقط" مكنت مراسل "الوطن" من الدخول إلى المتحف كزائر، حيث أن التعليمات المشددة تمنع وسائل الإعلام من التصوير داخل المتحف أو التحدث مع إدارته إلا بتصريح رسمي من الوزارة الكائنة في القاهرة حيث أن المتحف يتبع قطاع الفنون التشكيلية بالوزارة والإدارة المركزية للمتاحف والمعارض، ولا تمتلك مديرية الثقافة بالمنوفية أو هيئة الآثار أية سلطة عليه، ثواني معدودة بعد استلام التذكرة حتى حضر رجب شوقي موظف بالمتحف لتبدأ رحلة الغوص في ذاكرة دنشواي وما حدث بها منذ أكثر من 100 عام، تصميم حلزوني تتابعي يشرح موظف المتحف مكوناته منذ بدء نزهة العساكر الإنجليز حتى شنق القرويين وسجن وجلد العشرات أمام ذويهم، والدور التاريخي للزعيم الراحل مصطفى كامل للتنديد بجرائم الاحتلال، وعند هذا الحد تنتهي مهمة موظف المتحف ، سيكتشف زائر المتحف فجأة أنه صعد للدور الأخير دون أن يشعر بعد إنغماسه في آلاف التفاصيل التي جسدها عشرات الفنانين بلوحاتهم وتماثيلهم لتوثيق ما حدث، بالأسفل توجد بعض الغرف الإدارية، وفي الساحة الخلفية يوجد المسرح المكشوف يستعمل في إقامة الاحتفالات والندوات والأمسيات.
وضع في خلفيته نموذج للمشنقة التي شنق عليها فلاحو دنشواي، وعلى يمينها تمثال للفلاح المصري مقيدا بالسلاسل، وعلي يسارها تمثال "دنشواي تتألم" الذي يعبر عن دنشواي على هيئة سيدة ترفع يديها للسماء تدعو على الإنجليز.
أما في مقدمة المسرح فيوجد تمثال دنشواي إرادة وحياة وفي الجزء الملاصق لسور المدرسة الابتدائية يقع عند بدايته تثمال للفلاحة المصرية وأخيرًا تمثال العسكري الإنجليزي في المنتصف الذي ساقه القدر أن يصبح في مواجهة تلاميذ المدرسة الابتدائية مع تمثال الفلاحة المصرية "دنشواي تتألم" و"القروي المساق إلى المشنقة".
مصدر من داخل المتحف أكد لـ"الوطن" أنه أعيد افتتاح المتحف أمام الزوار بعد ترميمه في عام 2014 ولم يحدث أن تم الإعتداء على التمثال وقذفه بالحجارة بسبب إبتعاد المبنى القديم للمدرسة الإبتدائية عن سور المتحف وأضاف المصدر أنه مع بداية العام الجاري تم إنشاء مبنى جديد للمدرسة موازيا لسور المتحف، وعن تفسير قذف تلاميذ المدرسة للتمثال بالحجارة وإمكانية كونها لا تتعدى مجرد شقاوة أطفال، "ليست شقاوة أطفال" هكذا رد المصدر مؤكدًا أن المساحة الملاصقة للمدرسة الابتدائية يوجد بها 3 تماثيل وهي تمثال الفلاحة المصرية عند بداية السور ويكون في استقبال الزوار وعند نهاية السور يقبع تمثال الفلاح المكبل بالقيود والمساق إلى المشنقة وهما أقرب نسبيا من تمثال العسكري الإنجليزي، الذي كان يقبع في المنتصف في مقدمة المسرح المكشوف، مشيرًا إلى أن الإدارة بعد كل واقعة كانت تبعد التمثال عن السور ليتوقف قذف الأطفال للحجارة، قائلًا: "لو كانت شقاوة أطفال لماذا لم يتم قذف باقي تماثيل المسرح المكشوف وهي الأقرب؟".
وأضاف عندما نعيد التمثال إلى مكانه الأصلي نسمع صيحات التلاميذ "العسكري الإنجليزي رجع" ليعيد الأطفال قذفه من جديد، وأشار المصدر إلى أن الإدارة قررت وضع التمثال في مكان قريب من موضعه ولكن خلف جدار يحميه من الحجارة القادمة من المدرسة الابتدائية ليظهر وكأنه يختبئ من أحفاد زهران ورفاقه أصحاب الثأر الذي تخطى عمره 112 عامًا وظهر عليه بعض الإصابات الطفيفة أعلى الخوذة والذراع نتيجة قذفه بالحجارة.
أحمد محفوظ أحد أحفاد حسن محفوظ الذي تم شنقه في مذبحة دنشواي، أكد أن جده الخامس هو علي محفوظ شقيق الشهيد حسن الذي كان أول من واجه العساكر الإنجليز وطلب منهم التوقف عن إطلاق النار وصيد الحمام الذي هو مصدر رزقهم وحتى لا تشتعل النيران بأجران القمح.
وأضاف أن جميع الأجيال تناقلت ما حدث في دنشواي وأضاف "دائما ما كنت استمع لجدي الذي توفاه الله وعمره 96 عامًا عن المذبحة وملابساتها، وخصوصًا أن العائلة كان منها عدد ممن حكم عليهم بالسجن والجلد وأن المتحف له دور كبير لإحياء هذا الموروث فدائما ما كان لدينا الشغف لمعرفة ما حدث في القرية، وخصوصًا أنه لا تخلوا عائلة في القرية إلا وكان منها أحد ضحايا المذبحة سواء تم إعدامه أو جلده أمام أسرته وأبنائه.
والتقط والده محمد محفوظ أطراف الحديث، مشيرًا إلى أن حادث دنشواي محفور في أذهان الأجيال كافة في القرية ولا سيما العائلات التي قدمت شهداء وضحايا، ووجود المتحف يعمل على حفظ وإحياء هذا الموروث الأليم الذي تعرضت له قرية دنشواي، وعن سبب تسمية أبناء دنشواي "بأحفاد زهران"، مشيرًا إلى أن محمد درويش زهران كان فلاح شرس يخشاه العمد والمشايخ والأعيان ومن أسباب المحاكمة وصدور أحكام بالإعدام هو رغبتهم في التخلص منه ومن بينهم أحمد بك حبيب أحد أعيان زاوية الناعورة وسلطان باشا والتي سميت قرية منشاة سلطان بإسمه مضيفا أنهما كانا أصحاب الدعوة للعساكر الإنجليز لصيد الحمام بدنشواي موفرين لهم الخيول والتي جاؤوا عليها من ترعة البجورية إلى منطقة سرسنا وقرية دنشواي، طبقًا لما رواه "الدرديري" محفوظ حفيد شقيق حسن محفوظ الذي تم إعدامه، مشيرًا إلى أن الإنجليز كانوا معتادين القدوم إلى القرية لصيد الحمام، مستطردًا أن "أم محمد" الضحية الأولى للحادث كانت إحدى أقارب محمد درويش زهران الذي هجم على العساكر الإنجليز وجردهم من الأسلحة وقال أحد العساكر أن زهران اعتدى عليه "بالواطية " ويقصد بها النعل، مشيرًا إلى ذاكرة دنشواي عن المذبحة لم تنقطع وتصل إلى أصغر طفل في القرية .
- المبنى الجديد لمدرسة دنشواي الإبتدائية المشتركة
تمثال العسكري الإنجليزي بعد إبعاده عن موضعه
تمثال القروي المساق إلى المشنقة