تناول العديد من التقارير، على مدار الفترة الماضية، الدور الذى تلعبه مؤسسات التمويل الدولية فى الاقتصاد العالمى بشكل عام، وفى الاقتصاديات النامية، أو التى تمر بأزمات، على وجه الخصوص.
حيث يعتبر البعض أن دور مؤسسات التمويل الدولية ينحصر فى تقديم التمويل الميسّر، للمشروعات الكبرى، بهدف دعم جهود التنمية فى دول معينة، ووفق قواعد متفق عليها مسبقاً، ويتم مراجعتها بشكل دورى.
ودلّل أنصار هذا الرأى على وجهة نظرهم بالعديد من النماذج التى ساعدها صندوق النقد الدولى والبنك الدولى فى مواجهة مشكلات اقتصادية كبيرة، وتمكنت هذه الدول من تحقيق إصلاحات اقتصادية منضبطة، دفعت لتحسّن أداء المؤشرات الاقتصادية الرئيسية بعد ذلك.
وضمت قائمة هذه التجارب الاقتصاد الروسى فى نهاية التسعينات، واقتصاديات غانا والمغرب وتونس والبرازيل فى العقد الأول من الألفية الثالثة.
فيما يعتبر البعض الآخر أن هذه المؤسسات تنفّذ برامج سياسية أكثر منها اقتصادية، وتلجأ إلى شروط ميسّرة لبعض الاقتصاديات، بينما تضع شروطاً معقّدة لاقتصاديات أخرى بهدف تأجيج حركة الاحتجاج الشعبى فيها، ووضع السلطة الحاكمة فى موقف صعب.
ويرى أنصار هذا الرأى أن إلزام المؤسسات الدولية للحكومات الطالبة للتمويل باتخاذ إجراءات اقتصادية معينة، يمثل أداة فعّالة فى تحريك الجماهير والتأثير على الرأى العام، الأمر الذى قد يؤدى إلى موجات احتجاج كبيرة، على غرار التى شهدتها الأرجنتين وتنزانيا، ثم ما حدث فى الأردن واليونان مؤخراً.
وتناول بعض التقارير أن الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى دول الاتحاد الأوروبى هى الأكثر تأثيراً فى قرارات المؤسسات الدولية الأكبر حالياً، وهما صندوق النقد الدولى، والبنك الدولى، باعتبار أن واشنطن هى المساهم الأول فى هذه المؤسسات، التى تمتلك الكتلة التصويتية الأعلى، بالإضافة إلى القرارات التى يتم تمريرها من خلف الكواليس لخدمة دول معينة، أو لعرقلة دول أخرى، لكن لم تقدم هذه التقارير دلائل ملموسة على ذلك.
وإدراكاً منها للدور السياسى الذى تلعبه هذه المؤسسات المالية الدولية، وخدمتها للأهداف الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة، تزعمت جمهورية الصين الشعبية إنشاء مؤسسات مالية دولية جديدة، تعمل بأساليب مغايرة لأساليب عمل صندوق النقد والبنك الدوليين، لكنها تستهدف دعم النفوذ الصينى فى الدول الصاعدة والنامية.
حيث تزعّمت الصين تأسيس بنك «بيركس»، الذى تم تأسيسه برأسمال 100 مليار دولار، تساهم بكين بنحو 41 مليار دولار فيه، بينما تساهم كل من روسيا والبرازيل والهند بـ18 مليار دولار لكل منها، فيما تساهم جنوب أفريقيا بـ5 مليارات دولار.
كما أسست الصين البنك الآسيوى للتنمية، ليقوم بتقديم القروض الميسّرة للدول الصاعدة والنامية فى مختلف قارات العالم، وساهمت بنحو 50% من رأسماله، ويضم البنك حالياً 67 عضواً، ليس من بينهم الولايات المتحدة الأمريكية.
وأتصور أن المؤسسات المالية التى توفر القروض الميسرة تمثل أداة تأثير قوية فى سياسات الدول الفقيرة أو النامية، سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية، وتعتبر وسيلة فعّالة لتعزيز نفوذ الدول التى تسعى لقيادة العالم، حيث أسس الاتحاد الأوروبى البنك الأوروبى لإعادة الإعمار والتنمية، والبنك الأوروبى للاستثمار فى السابق، وأسست اليابان الوكالة اليابانية للتنمية، وكذلك كوريا وألمانيا وغيرهما من الدول التى تتصدر قائمة أغنى اقتصاديات العالم.
لكن حجم هذا التأثير واتجاهه، سواء السلبى أو الإيجابى، يتوقف على قوة الأنظمة السياسية الحاكمة فى الدول المستفيدة من هذه التمويلات، وقدرتها على تطويع تلك المساعدات أو القروض الميسرة فى خدمة الأهداف التنموية، مع إعداد برامج إصلاح برؤية وطنية خالصة، بعيدة عن التمكين والتدخّل المبالغ فيه من قِبَل المؤسسات الدولية.
فالتعامل مع مثل هذه المؤسسات يتطلب مستوى عالياً للغاية من الدقة والمهارات الاقتصادية والمالية والاكتوارية، حتى تتماشى مع المستوى المرتفع لمهارات أعضاء وموظفى هذه المؤسسات، الذين يمتلكون قدرات هائلة على التنبّؤ وتحليل الأداء، وتوجيه الخطط الاقتصادية لخدمة أهداف معينة، قد تكون أهدافاً نبيلة تحقق صالح الشعوب والحكومات، وقد تكون غير ذلك إذا صحت ادعاءات بعض التقارير الخارجية، التى تؤكد الدور الخفى للمؤسسات الدولية، فى صناعة الثورات، وتغيير الأنظمة السياسية الحاكمة!
وفى تقديرى، أن التعاون مع هذه المؤسسات تنطوى عليه بعض التحديات، مثله مثل باقى التعاملات مع العالم الخارجى، التى تتطلب أعلى مستويات الحذر، والاحترافية فى إدارة مصالح الدولة مع العالم، واتباع فن «الحوار الموجّه» للوصول إلى مناطق المصالح المشتركة، التى نستفيد فيها جميعاً، ولا يخسر أحد.