لا تتعلم السياسة الأمريكية من أخطائها، تتكرر التجارب وتتعدد الدروس، والأخطاء كما هى. وبعد أربعة قرون من وصول المغامرين الأوروبيين إلى شواطئ أمريكا لأول مرة، ما زالت السياسة الأمريكية تتعامل بمنطق رعاة البقر، وتحكمها الثقافة نفسها التى حكمت الغزاة الأوائل للغرب الأمريكى، وإلا لأبقى هؤلاء المستعمرون على قنوات للاتصال والتعايش مع الهنود الحمر، سكان البلاد الأصليين، وتخلوا عن المنطق الصهيونى الذى ظهر فيما بعد فى فلسطين، منطق «الأرض لا تتسع لشعبين». لم يحاول الغزاة الأوائل أن يفهموا ثقافة الهنود الحمر، فتعاملوا معهم بطريقة «إما أنا أو أنت». فكانت حرب الإبادة والتطهير العرقى، ربما الأولى فى التاريخ التى يحل فيها شعب على أنقاض عظام شعب آخر. والأمريكيون، خصوصاً فى عهد آخر حكامهم باراك أوباما لا يزالون -كما كان أسلافهم- مخلصين لثقافة رعاة البقر، ولا يزال حكامهم يجهلون ثقافة الأمم التى يحلون عليها رغم أنفها مثل العراق، فقد ظنوا -عشية الغزو وروجوا لهذا الظن- أن الشعب العراقى ملاقيهم على أبواب بغداد بأقواس النصر وأطواق الورود والرياحين، ومستقبلهم استقبال الفاتح المخلص، وإذا بهم يفيقون على رصاص المقاومة الذى أيقظهم من سكرتهم، فصار حلم الديمقراطية الذى بشروا به كابوساً طويلاً مفزعاً أجبرهم على الفرار، وأصبح «ربيع بغداد» شتاءً موحلاً يغوصون فيه حتى الأذقان. أما الديمقراطية العراقية المبشر بها فهى الديمقراطية الطائفية والمذابح الجماعية والقتل على الهوية وانتهاكات سجون أبوغريب، وسرقة أموال النفط العراقى، والتهجير القسرى بالملايين، والفرار واسع النطاق.
ورغم أن الولايات المتحدة دولة غنية، ليس فقط بمواردها الطبيعية، وإنما أيضاً بمصادر معلوماتها وثرواتها المعرفية، فإن خبرتها بثقافة الشعوب وتقاليدها وتجاربها فقيرة، ومصادرها إلى هذه الثقافة مشكوك فى نزاهتها وصدقيتها، فهم عملاء باعوا أنفسهم للولايات المتحدة. ونادراً ما كانت هذه المصادر أمينة أو قادت إلى قرار أمريكى وحيد صحيح، فالولايات المتحدة جاءت إلى الشرق الأوسط بعقلية رعاة البقر فهى لا تجهل فقط ثقافة سكانه، وإنما وهو الأخطر لا تحترمها ولا تكترث بمعتقدات الناس وقناعاتهم الحضارية، وإلا لما بال جنودها على جثامين شهداء المقاومة، ودنسوا المصاحف، واغتصبوا الرجال والنساء أمام ذويهم، فلم تكسب إلا مزيداً من العزلة والرفض والكراهية.
وبعد سنوات طويلة من الصداقة المصرية الأمريكية تربو على ثلاثين عاماً تبدو الولايات المتحدة وكأنها تتعامل مع المصريين لأول مرة، ولا يجد الرئيس أوباما وإدارته غضاضة فى التدخل فى شأن قضائى لبلد مثل مصر يضع الاستقلال الوطنى فوق رأس مقدساته، وكأنه يتدخل فى إحدى «جمهوريات الموز» التى وضعتها الصدفة الجغرافية خلف الأسوار الجنوبية للولايات المتحدة. وحتى هذه شبت عن الطوق وقالت «لا لأمريكا»، ولكن بالطريقة الديمقراطية الصحيحة؛ بانتخاب حكومات جديدة تعارض السياسات الأمريكية، وتغرس شوكة فى خاصرتها.
وعندما يبكى الرئيس أوباما على الشرعية المغدورة فى مصر، وتضيق إدارته -كما تدعى- بالتوقيفات والاعتقالات بحق جماعة الإخوان، وتستشيط غضباً لوصفهم بـ«الجماعة الإرهابية»، وتصف ما يجرى فى مصر بأنه «يضع علامات استفهام حول تطبيق سيادة القانون بشكل عادل وحيادى». فإن الرئيس أوباما بهذا التدخل إنما ينزلق كعادته منذ جاء إلى الحكم فى خطأ جديد، يضاعف به رصيد أخطائه. خطأ صادر عن جهل بنزعة الاستقلال فى مكونات الشخصية المصرية، التى «تجوع ولا تأكل بثدييها» ولا تقايض على كرامتها الوطنية، أو تفرط فى استقلالية قرارها. وهو أيضاً خطأ انتقائى، يغفر لمن يحب، ولا يغفر لمن لا يحب. فالولايات المتحدة تغمض عينيها عن جرائم الإخوان وإرهابهم، ولا تجد بالمنطق البراجماتى الأمريكى بأساً فى التحالف حتى مع «القاعدة» فى سوريا، وتبرئة ساحتها من مسئولية اغتيال السفير الأمريكى فى بنغازى. ألم تكن الولايات المتحدة هى التى خلقت أسطورة بن لادن وهى -نفسها- التى أعلنت اختفاءه فى مياه البحر! وبين الظهور والاختفاء أسرار وألغاز غامضة لن يمضى وقت طويل حتى ينكشف سترها ويذاع سرها. والدور المرسوم لجماعات الإسلام السياسى كأداة أمريكية لإعادة هندسة الشرق الأوسط طبقاً لإرادة أمريكية هو فقط الجزء الظاهر من جبل الجليد الأمريكى الذى يوشك أن يذوب أمام غضبة الثورة المصرية التى جددت فى 30 يونيو 2013 روح الاستقلال الوطنى. وانتقاد أوضاع الحرية وحقوق الإنسان فى مصر التى شدد عليها باراك أوباما. والتدخل الأمريكى فى شأن قضائى مصرى هو خطأ صادر عن نزعة أمريكية استعلائية لا ترى أخطاءها مهما كانت كبيرة، وتفتش للآخرين عن أخطاء، فإن لم تجدها انتزعتها قسراً من أحكام قضاء مستقل لا سلطان عليه. فالسياسة الأمريكية لا ترى إلا بعين واحدة. فهى لا ترى كل هؤلاء المستباحة حرياتهم فى سجونها وسجون حليفها الإسرائيلى المدلل، بينما ترى وتبكى بدموع التماسيح على من تخلع عليهم صفة شهداء الديمقراطية، حتى لو صدر بحقهم حكم قضائى عادل، أو تلوثت أيديهم بالدماء إذا كانوا يحاكمون فى بلاد لها سياسات لا تتطابق والأجندة الأمريكية، أو بلاد اتخذت قراراً مستقلاً بشأن السياسة الأمريكية، أو اعترضت على محاولات بناء الديمقراطية على الطريقة العراقية، أو التورط بدور عربى فى سوريا، أو أعلنت ضيقها وتبرمها بالسياسة التركية المنحازة والدور القطرى الأذعر، أو اختارت طريقاً مستقلاً للديمقراطية بعيداً عن أوهام الشرق الأوسط الكبير.