الذاهب إلى الشهر العقارى كالذاهب من الدار إلى «الزار»، ففور دخولك لعمل «توكيل قضايا» مثلاً، عليك أولاً شراء النموذج المجانى من البنت، صاحبة كشك تصوير المستندات، فى صمت، وانتظار دورك لملئه بمعرفة الموظف المختص، ثم تذهب به إلى موظف آخر لتسجيله فى الدفاتر، وبعد ذلك تقوم بعملية «تقدير الرسوم» عند موظف ثالث -مختص- تليها مرحلة الدفع للصرّاف فى الخزانة، ثم إنك تحمل النموذج إلى موظف الميكروفيلم، فيأخذ منك رسوماً أخرى، ويتعطّف عليك فى عظمة وكبرياء بإمضائه الكريم، مثل ملك يوقع وثيقة تنازله عن العرش.
وعليك العودة مرة أخرى إلى الموظف الثانى «ماسك الدفاتر»، لاستيفاء ما جدّ على النموذج من كتابات غير مفهومة وإمضاءات «فورمة» وتقديرات وأرقام، بحيث أصبح أعقد من لوحات بيكاسو!
وقديماً قال أجدادنا الحكماء: «من بره الله الله.. ومن جوّه يعلم الله». وهذا هو -بالضبط- حال مكتب الشهر العقارى فى منطقة الدقى، الذى تتصدر بابه لافتة كبيرة مكتوب عليها «مكتب التوثيق المطور»، ولكن ما إن تدخل من الباب فلن تجد أى تطور، بل ستجد فوضى ضاربة فى كل مكان، ومئات المواطنين الجالسين على مقاعد الانتظار «نافدى الصبر» بعد أن رمت بهم مصالحهم إلى هذا المكان رغماً عنهم.
تدخل المكتب فى التاسعة صباحاً لعمل «التوكيل»، وتظن واهماً أنك أول الواصلين إلى المكتب، فتجد «قائمة انتظار» من 45 شخصاً جاءوا قبل أذان الفجر لحجز أدوارهم قبلك، ومثلهم عدداً ينتظرون دورهم. 90 شخصاً يا مواطن أمامك، مع العلم أن احتمالية عمل توكيلات لهذا العدد حتى انتهاء وقت العمل تُعد ضرباً من الخيال، بمعنى أنك قد تنتظر حتى مواعيد الانصراف ولا يأتى دورك، و«انت وحظك».
ولو جرؤت على السؤال، إن وجدت موظفاً يسمع لك، يُقال لك «فى نقص موظفين يا أستاذ»، ومن الأفضل لك أن تذهب لعمل التوكيل فى محل إقامتك. وحتى لو كنت من سكان الصعيد، فسوف تستغرق وقتاً أقل فى الذهاب والعودة، قبل أن يأتى دورك هنا!
وحين تصل إلى مرحلة «ختم النسر»، إن وصلت، فسوف يتبيّن لك مدى نجاح الحكومات المتعاقبة منذ أيام السادات حتى الآن فى محاربة الروتين، وأى نجاح؟ إنه النجاح الذى يجعلك تدرك الحقيقة المرة، وهى أن ما قرأناه وسمعناه على مدار 40 سنة من تصريحات رسمية عن «محاربة البيروقراطية» ليس أكثر من غش سياسى.
وهذا -للأسف- هو الحال فى 4 مكاتب شهر عقارى دخلها كاتب السطور، هى مكاتب «الدقى وشارع مراد بالجيزة وشارع ربيع الجيزى والبدرشين»، وجميعها مداخلها مظلمة فى عز النهار، وتنتشر على سلالمها القمامة والمخلفات.
أما عن أرشيف الشهر العقارى الورقى القديم، قبل أن يصبح متطوراً إلى هذه الدرجة، فهو مرمى فى كل مكان على سلالم المدخل الخلفى، حيث سترى بعينيك الأوراق الرسمية «عزيزة المنال» ملقاة على السلالم بجوار القمامة والزجاج المكسور، والدواليب مفتوحة على مصاريعها لكل من هب ودب. هذا هو الحال الذى يغنى عن كل مقال، وسلّم لنا بقى «ع التطوير»!