سكان «أكشاك أبوالسعود» ينتظرون الهدم: «محدش عارف هنروح فين»
حالة من التردى تظهر على منازل وشوارع أكشاك أبوالسعود
يسود اللون الرمادى بدرجاته المتفاوتة المشهد بمنطقة أكشاك أبوالسعود بعين الصيرة، تستحوذ الأرض على أغمق درجاته ناتج امتزاج مياه الصرف ببقايا جلود المدابغ، تقل حدته مع أنقاض المدابغ التى طالها الهدم، والتى تحتل أجزاء واسعة من المنطقة مشكلة تلالاً صغيرة من بقايا جدرانها المحطمة.. يمر بينها سكان المنطقة بالكاد، وبالرغم من إعلان مجلس الوزراء مهلة 15 يوماً أمام أهالى المنطقة لتوفيق أوضاعهم قبل بدء إزالة مساكنهم، تمهيداً لتطويرها، تبدو الأوضاع هادئة وطبيعية بين السكان، خالية من أعمال النقل المتوقعة بينما ينتظرون قرارات هدم منازلهم بعد حصرها عن طريق لجنة من حى مصر القديمة، لكن لا أحد يعلم إلى أين.
يقف عبدالبديع جابر، 50 عاماً، عامل بإحدى المدابغ، وسط أنقاض المنطقة التى ضمت منزله وعمله عشرات السنين، يكسوه اللون الرمادى من شعر رأسه مروراً بملابسه إلى حذائه الذى تعلوه الأتربة، ينظر إلى مسكنه منتظراً عمليات الإزالة: «الحى جه عمل حصر للبيت اللى ساكن فيه من نحو شهر، إحنا أربع أسر، وأنا عندى 5 عيال»، لا يعلم «عبدالبديع» شيئاً عن المنطقة الجديدة التى تنتظرهم: «محدش قالنا هنروح فين ولا هناخد تعويضات ولا لأ، والمدابغ اللى فى الروبيكى جنبها شقق بس الشقة بـ400 ألف جنيه، هجيبهم منين ده إحنا بنأكل عيالنا بالعافية».
«الوطن» مع الأهالى بعد إمهالهم 15 يوماً لإخلاء المنازل ضمن خطة إزالة عشش «عين الصيرة»
يتمسك العامل بشقته فى المنطقة لقربها من عمله بالمدابغ: «أكل عيشنا هنا بقالنا سنين، المدبغة فيها 43 عامل، والمنطقة فيها آلاف العاملين، نص ساعة وببقى فى الشغل، لكن المدابغ بعد ما نقلوها فى الروبيكى المشوار بقى بعيد، أصحاب المدابغ اتعوضوا وخدوا مساحات أكبر من هنا، لكن إحنا بنروحها فى ساعتين وبنرجع فى نفس المدة يعنى هكون فى البيت الساعة 8 هلحق أنام إمتى وأقوم إمتى، ده غير إن اليومية من 80 لـ100 جنيه هيضيع منها مواصلات، الباقى ده هيكفى إيه؟!».
ويشكو عيد إسماعيل، عامل بالمدابغ فى نهاية عقده الرابع، عدم حصوله على شقة بالروبيكى قرب عمله: «الدولة وفرت شقق سكنية للعاملين فى مدابغ الروبيكى بعد نقلها، لكن سابت التنسيق والتوزيع على العمال فى إيد صاحب المدبغة، بحيث يأجرها أو يملكها وفقاً لأوضاع العامل، وهنا بيحصل التعنت»، ويروى العامل تجربته مع صاحب المدبغة: «أصحاب المدابغ خدوا فى الروبيكى آلاف الأمتار وعشرات الشقق ومش عايزين يدوا لحد حاجة، فضلت سنة شغال بصحى 6 الصبح بكون هناك 9 بعد ما طاقتى تخلص ما بعرفش أطلع نص الإنتاج اللى كنت بطلعه فى المدابغ القديمة»، انتهت قصة «عيد» مع المدابغ بعد انخفاض دخله منها: «سبت الشغل فى الروبيكى بعد ما يوميتى قلت النص، لأنى بتحاسب على عدد القطع اللى بنتجها واللى لقيناهم قللوا سعر القطعة من 5 لـ3 جنيه، بقيت بدل ما باخد فى اليوم 250 جنيه، مابقتش بعرف أجيب نصهم لأنى بروح الشغل خلصان من الطريق والمواصلات».
يُكمل «عيد»: «الحصر جالنا من شهر تقريباً، مندوب من الحى وواحد من المحافظة، جونا الساعة 9 بالليل عشان يشوفونا مستقرين فى البيت ولا لأ، ولما لقوا العيال موجودين وحياة مستقرة طلبوا يشوفوا شهادات ميلادهم وبعدها قالولنا نروح نقدم أوراقنا فى الحى».
«عبدالبديع»: تعويض أصحاب المدابغ بمساحات أكبر.. والشقة فى الروبيكى بـ«400 ألف»
على بعد خطوات وأمام أكوام من الحجارة تجلس «أم آية»، 40 سنة، ربة منزل، مرتدية جلباباً أزرق وطرحة غير محكمة على رأسها، تتجمع حولها بعض الطيور التى تربيها فتنثر لها بعض الحبوب أمام منزلها الذى تنتظر موعد هدمه: «اللجنة جت حصرت مرتين، مرة من سنتين، ومرة من نحو شهر، محدش عارف هنروح فين»، تكمل السيدة عما يتداوله بعض السكان فى المنطقة: «البيت باسم جوزى عرفة صالح وهو شغال فى المدابغ برضو وبيقولوا هينقولونا الأسمرات أو بدر، المنطقتين بعيد عن الشغل بس آدينا مستنيين».
يقف بلال رجب، أحد مقاولى الهدم، بجوار أحد المنازل، يقول: «أنا عندى 700 بيت هيتم هدهم فى منطقة أكشاك أبوالسعود فى الفترة من يناير إلى مايو، دى الفترة اللى وارد نبدأ فيها هدم فى أى لحظة»، يكمل «بلال»: «إحنا بنشتغل بالتنسيق مع حى مصر القديمة ومستنيين ينتهوا من أعمال الحصر، لكن ما نعرفش السكان هيروحوا فين وإن كان فيه توقعات بتختلف بين حى الأسمرات أو مدينة بدر».
فى الجهة المقابلة من مسجد ومقام أبوالسعود قرب سور مجرى العيون، اتخذ ساكنو الصف الأول من المنطقة أكشاكاً للمعيشة، تطورت الأكشاك مع عشرات السنين لتصبح شققاً، تلاها بعد ذلك العديد من بنايات الطوب الأحمر اكتفى سكانها بطلائها من الداخل لتتسع بالكاد لهم ولأسرهم. كلما انحدرت إلى الداخل بين شوارع المنطقة الضيقة تزداد العمارات السكنية، مع الاحتفاظ بالدور الأرضى للمحال التجارية للسلع الغذائية البسيطة والمنظفات والمقاهى وبعض المخازن التى تزداد تدريجياً باتجاه المدابغ، حيث يجاورها مقار لكل ما تحتاجه المدابغ من حرف، تنوعت بين الميكانيكية والخراطين، ومخازن الجلود، والكهربائية، والسباكين.
«أم إسلام»: «الموظفين لقوا عندى عداد تجارى فطلبوا ورق ملكية المحل ولسه مش عارفين هيودونا فين وهيعوضونا ولا لأ»
جمعتهم المنطقة والمهنة وإعالة ذويهم وأخيراً نصبة الشاى، التى اتخذت من القش وبعض الأخشاب جدراناً لها، جلسوا فى حلقة صغيرة بجانبها، لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين، بعضهم خط الشيب رأسه، وأصغرهم أتم العقد الثالث، التساؤل سيد المشهد، بين متى؟ وأين؟ وهل سيحتفظون بمهنتهم؟ وكيف سيكسبون قوت يومهم؟ تساؤلات حظيت باهتمام أهالى أكشاك أبوالسعود ولكنها لم تحظ بإجابة.
«إحنا هنا من 55 سنة»، جملة يفتتح بها محمد عبدالرحيم حديثه، رجل ستينى أحيل إلى المعاش بعد خصخصة شركة المدابغ النموذجية والتى فنى فيها عمره، يثبت الرجل ذو الشعر الأبيض نظارته السميكة على وجهه، ويروى بعضاً من تاريخ المنطقة: «أبويا كان عضو فى الاتحاد الاشتراكى، وكان بيوزع جوابات التسكين فى أبوالسعود، إزاى تشيلنى من منطقتى فى القاهرة وترمينى فى الجبال؟ وبيوتنا دى ملك، يبقى المفروض يعوضونا بملك، هنعمل إيه بالتعويض؟».
فوق مسئوليته عن أسرته يتحمل «عبدالرحيم» إدارة عائد صندوق الصدقة بمسجد المنطقة: «عندنا ناس هنا بتاكل طقة واحدة فى اليوم، وفيه ناس مش لاقية تاكل خالص، ده غير الشباب اللى مش لاقى شغل بعد نقل المدابغ للروبيكى، بنساعد الأهالى دول من صندوق الجامع، لكن لو رُحنا منطقة جديدة هندفع فلوس الشقق منين؟ ولو إيجار هندفع إزاى وإحنا ملناش شغل هناك؟ وولادى شغلهم فى وسط البلد وأى سكن فى المدن الجديدة هيعدى الساعتين مواصلات بس».
وعن محاولته زيادة دخل أسرته يقول: «معاشى 1400 جنيه، وعندى ولدين متجوزين فى شقق فى نفس البيت، ومضطر أساعدهم فى المصاريف عشان العيشة صعبة، جبت ميكروباص وحاولت أشغله بس خسرت فلوسه فى الآخر ورجعت أعتمد على المعاش».
«هدى»: «عرفت إن موظفين الحصر ما سجلوش الشقة وبعدها بيومين جه ظابط يكمل حصر البيوت اللى جنبنا بقينا نجرى وراه فى الشارع عشان ييجى يسجل لنا لكن مارضيش»
يلتقط طرف الحديث عادل حسين، شاب أتم عقده الثالث، معترضاً على تسويف الحى للرد عليهم بموعد الإزالة: «مفيش مصداقية بينا وبين الحى، إحنا بقالنا شهور بيأجلوا الرد علينا، المفروض يقولولنا هننقل فين ويبلغونا بمدة محددة للنقل، لكن إحنا من رمضان وبنسمع إن قدامنا 15 يوم وننقل»، يتابع «عادل» الحديث فور عودته من عمله بتوكيل إحدى شركات دهانات الحوائط: «برجع من الشغل أقف فى ورشة الحدايد والبويات بتاعة أبويا بعد ما جاله القلب، وهو ده اللى بيصرف على البيت، لو جم عوضونا بشقة هنصرف على البيت إزاى من غير الورشة، والحى مش بيدينا رد محدد فى موضوع المحلات، والموظفين هناك بيقولوا إن النقل هيكون فى منطقة سكنية مفيهاش محلات، ونفس الأزمة فى تل العقارب وفى ماسبيرو بعد إزالتهم». وعن وضع أسرته يُكمل: «بيتنا فيه 3 شقق منهم شقة ليا ولأسرتى، وشقة لأبويا وإخواتى، وشقة تالتة لعمى، وكلهم ملك، المفروض ينقلونا فى شقق ملك برضو».
يوافقه الرأى سيد عوض، ساكن خمسينى انضم للقعدة: «أنا عندى محلين بأجرهم وبيت فيه أكتر من شقة، هياخدوا ده كله ويعوضونى بشقة إزاى»، يشير «سيد» بإصبعه إلى أحد محلاته قبل أن يقترب منه ويرفع بابه فينفتح بأقل مجهود يذكر، ودون وجود أقفال تؤمن المكان، أحدهما يقطع الخردة، والآخر يؤجره لتجارة البقالة والسلع البسيطة: «المحلين مساحتهم مترين فى 3 أمتار، بعيش على إيجارهم بعد ما سبت شغل المدابغ، ساعات يبقوا مخزن خردة، أو مخزن جلود، أو أى صنعة مرتبطة بالمدابغ، والناس دى لو اتنقلوا منطقة جديدة مش هيعرفوا يصرفوا عليها يعنى يا يتحبسوا يا يترموا فى الشارع».
«أشرف»: «سمعت إنهم عملوا مزادات وباعوا المحل الواحد فى الروبيكى بـ250 ألف جنيه؟».. و«فارس»: هيودونا مكان بعيد.. هنشتغل إيه؟
تجلس «أم إسلام»، 50 عاماً، فى محلها بين الحلوى والألعاب وبعض المنظفات، تكسب منها قوت يومها وتروى: «موظفين الحصر جم من شهرين، ولقوا عندى عداد تجارى فطلبوا ورق ملكية المحل ورُحت قدمتها فى الحى، مع ورق بيتى وهو 3 شقق، بس لسه مش عارفين هيودونا فين وهيعوضونى عن المحل ولا لأ، ده هو اللى بصرف منه وأنا جوزى ع المعاش، وعندى ابنى 24 سنة مش بيشتغل»، تختتم السيدة حديثها بنبرة يأس: «هنعمل إيه هو إحنا أقوى من الحكومة اللى نصيبنا فيه هنشوفه».
داخل محله الضخم للوازم الكهرباء وقف فارس على، 60 عاماً، يقول عن محله إنه أكبر محل لمستلزمات المدابغ فى المنطقة بأكملها حيث تبلغ مساحته نحو 40 متراً مربعاً: «أنا عايش هنا فوق الـ50 سنة، المدابغية الكبار اللى خدوا فى الروبيكى كلهم عملوا عندى، همّا خدوا متر قصاد متر والتقسيم رأسى مش أفقى يعنى لو 3 أدوار بيعوضوهم بمساحة أفقية، لكن كل منطقة وليها خدماتها، أنا عندى 8 محلات فيها عدادات تجارى محصروش الـ8 كلهم».
يشكو «فارس» عدم نقله إلى جانب المدابغ بانفعال: «المدابغ ليها خدماتها زى كهربائى ونجار وخراط ومخازن جلد، كل دول ماراحوش ولا خدوا أى حاجة، عشان المحافظة ضمّانا حصر سكنى مش صناعى، هيودونا فى منطقة بعيد عن المدابغ، نشتغل إيه إحنا ساعتها؟ فى نفس الوقت المحلات فى الروبيكى اتباعت بالمزاد العلنى وكام نفر اشتروها المتر بـ12 ألف، وهيأجروها بمعرفتهم، إنما محدش مننا خد لأن هنا مش معاهم فلوس شرا ولا إيجار، المفروض يتعوضوا ما دام الحكومة قصدها تطوير».
بجانب محل «فارس» وقف أحمد محمد، شاب فى أواخر الثلاثينات: «بيتنا بيقولوا هيتهد اختار المكان اللى أنا عاوزه اللى جنب شغلى، أنا كنت عامل فى المدابغ مالقيتش مكان ليا فتحت محل خردة من أنقاض الهدد بقالى سنة، ماتودينيش مكان مفيهوش شغل ولا حاجة، لما نتنقل مش موفرلنا شغل وأخويا بيشترى خشب من مخلفات المدابغ وبيبيعها، وأنا فى شقة مع مراتى وبنتى».
يتمشى «أحمد» إلى أن يصل لمنزله حيث يسكن وأسرته: «الإيجارات فى بدر والأسمرات بتوصل لـ5 آلاف مين هنا معاه ده، إحنا كلنا على الله، ولا بطاقة تموين ولا شغل وتوقفت عن التعليم عشان أشتغل وأصرف على أهلى بعد ما أبويا اتوفى».
يدخل «أحمد» المنزل بصحبة أشعة طفيفة لضوء النهار تكفى لأن يبصر الآتى من درجات السلم الأسمنتية، التى تخلت عن السور مكتفية بالحائط، عند وصول الدور الأول من المنزل يستقبله باب مفتوح على صالة صغيرة وغرفة واحدة تضمهما الشقة وبالكاد معهما مطبخ وحمام، تجلس الأم، دراهم عوض، على أريكة دون مسند وتسند ظهرها إلى الحائط مسدلة ما تبقى من عباءة البيت البسيطة لتبدأ الحديث: «الشقة مساحتها 80 متر أوضتين وصالة وحمام ومطبخ، بأجر منهم أوضة عشان أزود دخلنا»، وعن الحصر تروى: «بقالنا هنا 30 سنة والبيت باسمى، فمش بندفع حاجة غير مبالغ رمزية للعائد تقريباً 15 جنيه، وبعيش على الإيجار ومعاش جوزى بعد ما اتوفى، ومأجرة شقة فى الدور اللى فوقينا لبنتى وجوزها، وأخوها ومراته عايشين مع بعض فى شقة تانى».
«عيد»: «الحصر جالنا من شهر ولما لقونا وشافوا شهادات ميلاد العيال قالوا لنا قدموا أوراقكم فى الحى».. و«دراهم»: «عايشين هنا من 30 سنة فى شقة 80 متر وأجّرت منها أوضة عشان أزود دخلنا»
على بعد خطوات من منزل الحاجة دراهم يقف أمام ورشته، أشرف إمام، ميكانيكى فى أوائل الخمسينات، يأتى من منزله بدار السلام يومياً للعمل فى الورشة، ذو يدين جافتين متشققتين يظهر عليهما بسهولة أثر العمل يشير بهما إلى آلات وعدة العمل: «بعد ما كنا صنايعية فتحنا مكان لوحدينا وبنعمل كل شغل المدابغ من إصلاح وصيانة، لكن دلوقتى ولا إحنا عارفين نشتغل هنا ولا بنشتغل هناك، عملوا مزادات فى الروبيكى وصل المحل 25 متر لـ250 ألف جنيه، وطبعاً كل يوم سعره بيزيد، أنا لو معايا المبلغ ده هروح هناك ليه»، بعد مشوار دار السلام لمنطقة المدابغ الذى لا يزيد على نصف الساعة، يحكى «أشرف» مأساته مع الروبيكى: «كل يوم أروح مدابغ الروبيكى وأرجع فالمواصلات لوحدها بتضيع اليوم، وعايزلى 50 جنيه مواصلات عشان رايح بعدة الشغل وباخد عربية، الأول الزبون كان يجينى هنا والشغلانة بـ200 جنيه مثلاً، دلوقتى مش هيتبقالى حاجة منهم، ده غير الشغل اللى بيكون بالليل فباضطر أؤجله للصبح، وكده يبقى أنا اتعطلت والعامل اتعطل»، وعن محلات الروبيكى يقول: «لو خدت محل هناك بالمبلغ ده طيب هسكن فين، المساكن اللى فى الروبيكى خاصة بعمال المدبغة نفسها، ومعظم العمال هناك يوميات من غير تأمينات ممكن يرميه بره عشان ياخدوا الشقة».
ترددت شكاوى عن تجاهل الحصر للعديد من الأسر، وكان منزل «أولاد عبداللطيف» خير مثال على ذلك، يقع فى المسافة بين بداية منطقة الأكشاك، وبين محطة مترو الملك الصالح، يستهل مدخله بحوض غسيل لم تتسع له أولى شقق الدور الأرضى، حيث يتكون المنزل من طابقين يضمان 8 شقق ملك ورثة صاحب المنزل، بالإضافة لمخزن خردة بالدور الأرضى والذى يضم 4 أسر، كل منهم يتخذ شقة «أوضة وصالة» ذات جدران مشققة وأبواب متهالكة وأسقف خشبية، يتقاسمون جميعاً حماماً مشتركاً واحداً بالكاد يتسع للفرد.
تقف بالمدخل شيرين محمد، سيدة فى أواخر الثلاثينات، وقد انتهت للتو من غسل بعض الصحون حيث تركت مياه الغسيل بللاً على جلبابها، تكتفى بتجفيف يديها لتبدأ فى سرد أحداث صباح يوم الحصر: «من 3 جُمع نزلت من بدرى رُحت مكتب التموين والساعة 9 الصبح خالتى كلمتنى بلغتنى إن موظفين الحى عندنا فى البيت عشان الحصر، جيت جرى وفتحت لهم الشقة، دخلوا وشافوا أوضة العيال وطلعوا هدومهم وابنى ورّاهم شهادات التقدير اللى واخدها من المدرسة، بعد ما خلصوا سجلوا شقتى وشقة خالتى وقالولنا نقدم صور البطايق، وقسيمة الجواز، وشهادات ميلاد الأولاد، وباقى الشقق كتبوها مغلق».
لم تنته آمال العائلة فى تسجيل شققهم ضمن الحصر، فبالصعود للدور الأعلى، عن طريق سلم يحده سور متصدع جاهز للسقوط فى أى لحظة، تدق هدى عبداللطيف، سيدة فى أواخر الأربعينات، أبواب الشقق الأربع، جميعها متصدعة الجدران، تنفذ أشعة الشمس من جدران إحداها فتضىء الغرفة، وأخرى تغلب ساكنوها على الشقوق بشريط لاصق عريض أملاً فى تجنب الحشرات ولسعات رياح الشتاء الباردة.
بعد انتهائها من جولة المنزل تهدأ «هدى»، وتجلس على سرير غرفتها، يجاوره بوتاجاز قديم 4 شعلات، لم يتسع له المطبخ، تدارى قطع جلبابها بطرف طرحتها وتروى تجربتها مع موظفى الحصر: «جيت من بره عرفت إن موظفين الحصر ماسجلوش الشقة، وبعدها بيومين جه ظابط يكمل حصر البيوت اللى جنبنا بقينا نجرى وراه فى الشارع ونبوس إيده عشان ييجى يسجلنا، لكن مارضيش وقال لنا مش جايلكم، رُحنا قدمنا شكوى فى الحى وقالوا هييجوا بس ولا عبرونا»، تعمل «هدى» بنظافة البيوت لكسب رزق أسرتها: «بقيت خايفة أروح شغل ييجوا موظفين الحصر مايلاقونيش تانى، المفروض يقولوا معاد محدد يحصروا فيه، إحنا ورانا مصالح مش هنتحبس يعنى».
تضع «هدى» آخر أمل لها فى أولادها: «بتكفى واتعدل عشان ولادى، بنتى الكبيرة اتخرجت وبتشتغل، وابنى الصغير فى المدرسة، وابنى الكبير فى كلية آثار، كل أملى أعلمهم عشان ينشلونى من هنا».