جامعة الدول العربية، ربما يذهب خاطرك نحو الجامعة التى أنشئت للتعامل مع الأزمات العربية دون جدوى، وإنما المقصود «شارع جامعة الدول العربية بالمهندسين».
لهذا الشارع نصيب من اسمه، فيمكنك فيه أن ترى كل الوجوه العربية.. إنه عرض غير منظم للأزياء العربية.
فقط توسّط حديقة الميدان بالشارع المقصود، تجوّل بعينيك لترى جامعة الدول العربية تجتمع كل لحظة بشعوبها فى أركان هذا الميدان. هناك أكتاف الإخوة تصطدم، بدلاً من أن تحتضن، وكفوفهم لا تمتد للسلام، فقط للإشارة دون كلام، وعيونهم لا تلتقى، وأنوفهم تترفع عند البعض، ومنكسرة بطبيعة الحال عند آخرين.
تنقسم الوفود العربية فى جامعة الدول العربية إلى قسمين.. الأول لا يهمنا سبب مجيئه، والآخر نعلم جيداً أنه جاء مستغيثاً بعد أن ألقى به ظلم النظم المستبدة لإخماد ثورات الربيع العربى.
ضيوف شارع جامعة الدول العربية من العرب ينظرون، بترفع أحياناً، ويأس أحياناً أخرى، وبلا مبالاة غالباً، لـ«كارمن شتى» السورية. اختلفت النظرات ذات العرق الواحد «العربى» فى دوافعها وأهدافها، لكنها اتفقت فى أنها لن تفيد «كارمن السورية» فى شىء.. لن تساهم فى حل مشكلة سيدة عربية «مكسورة الجناح».
كل ما تبقّى من ملامحها الثابتة، وسط تجاعيد الحزن والضعف التى غزت شبابها، يؤكد أنها كانت جميلة، بل فائقة الجمال. تشردت وتشرد جمالها بيد الديكتاتورية واللاإنسانية التى تجسدت على الأرض بأسماء مختلفة، بعد أن قُتل زوجها وأطفالها الأربعة وأبوها وأختها الصغرى فى قصف اجتياح مدينة «حمص».
وللحظ السيئ -كما تعتبره كارمن- أنها كانت من الناجين دون كامل أسرتها.
عاشت «كارمن» مع أشلاء أحبائها «48 ساعة»، قطع صغيرة من أشلاء بشرية تعرف تفاصيلها جيداً، جمعتها بعينين جامدتين، وشعر ناحل اقتلعت خصلاته بيديها أثناء ساعات العويل الصامت. تشابكت الخصلات الصفراء المقتلعة مع أشلاء أحبائها قبل الدفن.
إنه مشهد من مشاهد الحياة، ليس مشهداً من فيلم تم إخراجه ليكون فيلم رعب، وإنما هكذا كان فيلماً من مشهد واحد مرعب عن الموت.
«كارمن شتى» إحدى النازحات السوريات إلى مصر، قالت إن الموت حرمها الستر وتخلى عنها.
واليوم.. ها هى تتسول فى طرقات شارع جامعة الدول، بعد أن قرصها الجوع، تحت لافتة «أختكم سورية وتحتاج المساعدة».
حالة التسول فى حد ذاتها لم تكن سبباً فى حزنى، خصوصاً من سيدة بدت كأنها تتسول الحياة حتى تفوز بالموت، لكن المحزن مرور عشرات «الدشداشات العربية» على المأساة وكأنها لم ترها، فلم يساهم أصحاب العمائم فى رفع المعاناة عن «كارمن» البائسة التى دفعت، وغيرها الكثيرات من السوريات، ثمن المطالبة بالحرية لبلادهن.
افترشت «كارمن» الأرض بثيابها الرثة بعد إفاقتها من حالة إغماء سريعة، تحلَّق حولها المارة متسائلين بلهجاتهم المختلفة عما حلَّ بها، وسرعان ما انفضَّ الجمع، وذهبت لحظة الإشفاق على «كارمن»، وما نالت منه إلا بعض النقود التى ألقيت بين يديها.
وبينما اكتفى أصحاب «الدشداشات» بكلمات الرثاء، كان هناك «الشيطان».. رجل لم يذهب كما ذهب الآخرون.
جلس بعيداً بعض الشىء، على حافة إحدى السيارات، وعيناه الطامعتان تخترقان «كارمن». والسؤال الذى تبقّى لدينا الآن: هل تسقط «كارمن» فى «جامعة الدول العربية»؟