دماء وبكاء وفرحة بالنجاة.. «رصيف نمرة 6» بمحطة مصر يتنفس «دخان أسود»
جانب من حريق محطة مصر
رائحة غاز تكتم الأنفاس، مختلطة بدخان أسود لحريق هائل يخفي معالم مصدر انبعاثه عن أعين الحاضرين، بينما سارع رجال المطافئ بسرعة اخماده بكم ضخم من المياه جعلت من الرصيف رقم 6 بمحطة مصر "بركة من المياه"، لا يميزها سوى صرخات الألم والبكاء الحاد، والحقائب الملطخة بالدماء.
فاجعة لم تكن في حسبان الركاب القطار وسط بحيرات المياه المنتشرة على الرصيف، تتعالى أصوات رجال الشرطة بـ"كله يبعد.. ارجعوا لورا.. هتتعوروا.. انقلوا المصابين بسرعة"، في الوقت الذي خرجت فيه صرخات متتالية، وبكاء لا يتوقف، بينما يسارع الإسعاف بحمل المصابين، وأشلاء الوفيات في "أكياس سوداء"، ليسيطر الرعب على جميع الحاضرين من منظر الدماء، بينما وقف آخرون على الأرصف المقابلة يحاولون توثيق تلك الحادثة بكاميرات هواتفهم المحمولة وهم يتابعون الحدث بقلق بدى شديدًا على وجوههم.
عاملات "محطة مصر": "ربنا حفظنا مكناش شغالين.. كان زمانا دلوقتي ميتين"
"الحمدلله، قدر ولطف، كان زمانا دلوقتي ميتين، الحمد لله ياربي".. بنبرات متقطعة وبكاء شديد مازال تاركًا أثره على أعينهنّ، وقفت عدد من العاملات بمبنى قسم الشرطة الملاصق للجدار الذي اصطدم به الجرار، يرددنّ تلك الكلمات بمشاعر متضاربة بين السعادة بالنجاة من الحادث الأليم، والحزن لوفاة وإصابة الكثيرين، في ظل مشاعر القلق والرعب الذي سيطر عليهنّ. تقول إحداهن سعاد أمين: "ربنا حفظنا وقتها، مكناش شغالين.. بس منظر الدم موتنا أول مرة نشوف المنظر والأشلاء دي، ربنا يعفو عنهم"، بينما حاول المديرين طمأنتهنّ.
اصطدم الجرار بشدة بإحدى الصدادات في منطقة "المعدية" للقطارات، ما تسبب في تحطمه وانهيار الجدار المواجه له وتهشم أحد أبراج الكهرباء والقضبان والرصيف المجاور، ليترك مشهدًا مأساويًا غير متكرر شبهه البعض بواقعة قطار "العياط".
سبب الحادثة، أرجعه أحد شهود العيان إلى عدم وجود فرامل بالجرار، فيما أكد مواطن آخر أنه نتيجة إثر السرعة الشديدة التي كان يتحرك بها سائق القطار.
أحد الناجين: كنت قاعد على الرصيف فجأة القطر دخل بسرعة وحصل انفجار
"منه لله السواق، هو السبب، أكيد في ناس ماتت و6 أسر اتيمت وناس حصلها إعاقات".. كلمات رددها بصوت عالي أحد مصابي الحادث ، قائلا: "انا كنت قاعد على الرصيف اللي قدام الحادثة مستني قطر الصعيد، فجاة لقيت القطر داخل بسرعة عالية جدا وحصل انفجار شديد جدا عماني لدرجة اتخبطت في الحيطة اللي قدامي". يحاول الرجل الستيني وصف المشهد، بينما يجفف الدماء التي تسيل من منتصف جبهته وأنفه، رغم رعشة يديه وعلامات القلق والصدمة مازالت تاركة آثارها على ملامحه.
بين حالة الهرج والمرج الضخمة وتفقد عدد من الوزراء والمسؤولين للحادث، أصيب "محمد"، أحد عمال هيئة المحطة، إثر دخول إحدى قطع القطار المتهشمة في قدمه، ليسارع صديقه بوقف النزيف ومساعدته في الجلوس جانبًا، قائلًا: "احنا كنا قاعدين في المكتب جوة، فجأة سمعنا صوت الانفجار والخبطة طلعنا نجري بنحاول نساعد في نقل المصابين، بس المنظر مش طبيعي مش أقل من 20 واحد ماتوا".
نجاة نجل "عبدالنبي" بعد تأخره عن القطار.. و"سميرة": افتكرته حادث إرهابي
رغم مرور أكثر من ساعة ونصف على الواقعة، إلا أن رجال المطافئ مازالوا يحاولون إخماد الحريق داخل الجرار الذي تلطخت أبوابه بالدماء، وترتفع رائحة الغاز الشديدة المنبعثة منه، فيما يحاول آخرون نقل بقايا حقائب السفر والأطفال والنسائية، ما يضفي رعبًا وحزنًا بين العديد من المواطنين الذين تجمهروا بكثافة أمام مكان الحادث، رغم رفض الشرطة لذلك، متسائلين عن تفاصيل الحادثة، ليهمس أحدهم للآخر "مش هنركب قطارات النهاردة خالص، يلا نروح أحسن"، فيما يقول ثاني: "دي كارثة بجد، مش كفاية ناس بتموت، دي تحتاج استقالة"، ويتحدث ثالث: "أكيد لسة في ناس تحت القطر، ربنا يرحمهم".
على الرصيف المقابل للحادث، غمرت الدموع بشدة وجه الرجل السبعيني فؤاد عبدالنبي، الذي كان نجله سيستقل ذلك القطار إلا أنه تأخر عن الموعد بفعل حكمة إلهية، على حد قوله، مضيفًا: "أنا مش عارف أقول إيه غير إني بحمد ربنا أن ده حصل، وأنا اللي كنت مضايق إني هستناه أكتر، لو حتى هستناه العمر كله بس يجيلي سليم مش مهم، ربنا يحفظ الكل".
ظنت سميرة عبده أن الانفجار، كان نتيجة حادث إرهابي من شدة الصوت التي صادف لحظة دخولها المحطة، فضلًا عن بشاعة المنظر وتهشم القطار بهذا الشكل، مضيفة أنه لو كان ذلك صحيحًا لكان الأمر أشد سوءا من الوضع الحالي، متمنية من الله أن يحفظ الجميع.
ونشب حريق هائل داخل محطة مصر، إثر اصطدام أحد جرارات القطارات بالصدادة الحديدية الموجودة على رصيف 6 بعد خروجه عن القضبان، ما أدى إلى انفجار "تنك البنزين"، وأسفر عن اشتعال النيران في الجرار والعربة الأولى والثانية بالقطار.
وأخلت قوات الأمن المحطة من الركاب ومنعت الدخول إليها، وقررت السكك الحديدية إيقاف حركة القطارات بمحطة مصر، وذلك تزامنًا مع وصول نحو 20 سيارة مطافئ للسيطرة على الحريق، الذي أسفر عن وقوع عدد من الوفيات والإصابات فضلًا عن تفحم عدد من الجثث.
ووجه الدكتور مصطفى مدبولي رئيس الوزراء، بتوفير أقصى مستويات الرعاية للمصابين، والوقوف على الأسباب الرئيسية للحادث، فيما وصل هشام عرفات وزير النقل، واللواء خالد عبدالعال محافظ القاهرة إلى محطة سكك حديد مصر لتفقد موقع الحريق، كما انتقل فريق من النيابة العامة إلى مكان الحريق لإجراء معاينة تصويرية و مناقشة عدد من شهود العيان وتفريغ الكاميرات.