منذ سنوات، عند كلية البنات، بمنطقة مصر الجديدة، كان هناك رصيف منخفض للغاية بما يغرى السيارات بصعوده والانتظار عليه، وحدث أن قررت السلطات المختصة منع ذلك، فأجرت عملية تعلية للرصيف أوصلته بها إلى ما فوق مستوى نصف المتر! وترتب على ذلك أن أبطال الجمباز فقط هم من كانوا يستطيعون صعود هذا الرصيف، وبالطبع خرج الأطفال والسيدات وكبار السن من المعادلة، فضلاً عن أن كل السيارات التى كانت تركن بجانب الرصيف (بشكل قانونى تماماً)، عجز أصحابها عن فتح أبوابها الموازية لهذا الرصيف العملاق.. ومع الوقت، وتبعاً لنظرية الانتخاب الطبيعى، بدأت السيارات فى الانتظار على مسافة كبيرة من الرصيف مما ضيق الشارع، الضيق أصلاً، فتعطلت حركة المرور، المتعطلة أصلاً! وبمرور الزمن قام الناس بهدم الرصيف مرة أخرى لتنتظر عليه السيارات وتمضى الحياة! فلا فائدة من قانون صارم شكلاً ومضر موضوعاً.
فى أحد الأيام، قبيل يناير 2011، كانت حوادث التعذيب فى أقسام الشرطة قد بدأت تُكون ظاهرة ملحوظة، بما استدعى مواجهتها بحزم لما كانت تشكله من تدمير ممنهج لسمعة الدولة المصرية، وإثراء حالة العداء ضدها وتزكية احتقانات عميقة بين الدولة والجماهير، وكان هذا محفزاً كافياً لقوى متعددة لتسخين الأجواء المحتقنة بالفعل وتقوية شرارة كانت تقبع تحت رماد كثيف من الصبر وضبط النفس.
لم يكن الحل العبقرى الذى طُرح وقتها هو مثلاً إعادة تأهيل من لا يلتزم بمعايير المهنة، ولا تغيير آلية ونظام العمل بما يكفل عدم تكرار الأمر، ولا تغيير طرق البحث والتحرى.. لم يكن كل هذا مطروحاً، لكن الحل السحرى جاء فى كلمتين: «منع الموبايل»! ويتلخص هذا الحل فى منع اصطحاب جهاز التليفون المحمول داخل أقسام الشرطة، وذلك لأن هذه الأجهزة هى التى تقوم بتصوير التجاوزات التى كانت تتم بالفعل! وبالتالى فلم يتم منع الظاهرة، بل تم وضع ضوابط لمنع تصويرها وهى تحدث! أى إنه تم منع التعذيب عبر تشجيع التعذيب، شريطة ألا تكون المباراة مذاعة على الهواء مباشرة!
الانتخاب أو الانتقاء الطبيعى هو عملية ممنهجة وغير عشوائية، يزداد فيها أو يقل شيوع الصفات الحيوية فى مجموعة الكائنات الحية.. والانتخاب الطبيعى هو آلية أساسية للتطور.. ويرتبط مصطلح الانتخاب الطبيعى بمفهوم «البقاء للأصلح»، وهو بالمناسبة مصطلح من إبداع الفيلسوف البريطانى «هربرت سبنسر» وليس العالم البريطانى «تشارلز داروين» كما يُشاع دوماً.. فلا يمكن لأى أحد مهما بلغت قوته، أو لأى شىء مهما كان حجمه، أن يقف أمام حركة التطور الطبيعى فى أى مجال، لكن المطلوب دوماً هو متابعة الواقع ومحاولة قراءته والتكيف معه لتحقيق أكبر استفادة ممكنة بدلاً من تضييع الوقت والجهد فى محاربة ما لا يمكن محاربته، ووضع قوانين إما أنه لا يمكن تنفيذها مثل «قانون الرصيف»، أو أنها تغطى على المشكلات فقط دون حلها مثل «قانون الموبايل» وكأننا ننظف الشقة بوضع التراب أسفل السجادة بدلاً من التخلص منه!