من السجن للقضاء.. سعد زغلول مثال شرف للمحاماة
سعد زغلول
يروي عباس العقاد، في كتابه "سعد زغلول.. سيرة وتحية" أنه كان مشاركا فعالا في الثورة العربية، وكان في مرصد من أعداء العرابين بالشكل الذي جعله يتعرض للسجن والنفي عدة مرات من قبلهم، وقد خطر لسعد زغلول أن يستعيد عمله في المحاماة أو العمل في وظيفة حكومية، وكانت المحاماة حينها مهنة وضيعة ومبتذلة، يسوء سمعته كل من يمتهنها ويحترفها، فلم يحسب للمرافعة سوى أنها مجالا للبذاء وطول اللسان، وكان نجاح القضايا يعتمد على الغش والكذب والمراوغة.
وأكد سعد أن كلمة محامي كانت مساوية لكلمة مزور، فيما أنه كان يخفي عن أهله وأصحابه عمله بتلك المهنة، وقال في خطبته التي شكر بها من ساعدوه على تعيينه في القضاء "إني اشتغلت بالمحاماة" متنكرا على أهلي وأصحابي.. وكلما سألني سائل: هل صرت محاميًا؟ أقول معاذ الله أن أكون كقوم خاسرين! فكان يبذل قصارى جهده كي لا يعرف بين أصحاب القضايا، فقد رضى سعد أن ينتمي لطائفة مزدراة، ولم يرضى أن يتعرض هو للازدراء.
وكان أعداء الثورة العرابية يعلمون بأمر سعد، حيث كانوا يرصون ما بقي من آثار الثورة العرابية، وعلى الرغم من الثوار كان أغلبهم بين منفي وسجين وقتيل، إلا أن الخوف والذعر لم يهدأ من قلوبهم، وكان يكنون لسعد الكثير من العداوة والضغينة إلى أن قادهم حقدهم للوهم بأن سعد وزميله حسين أفندي صقر في مكتب المحاماة، قد ألفا جماعة سرية سمياها "جماعة الانتقام".
واعتقد أنها تعمل على قتل الشهود الجواسيس الذين خانوا الثورة العرابية والرؤساء الذين كانوا ضد العرابين، فقاموا بالقبض على سعد وزميله وأحالوهما إلى المحاكمة، وشكلت لجنة للنظر في قضيتهم أسندا رئاستها للقاضي البلجيكي فليمنكس، واشترك فيها حسين بك واصف وحامد بك محمود ومحمود بك سالم ومسيو دي هولنز الذي رافق سعد فيما بعد في دوائر محكمة الاستئناف.
ونظرت اللجنة في التهمة لكنها لم تتعثر على أي دليل وحكمت ببراءة المتهمين، لكنهما ظلا معتقلين بعد إعلان البراءة اكثر من ثلاثة أشهر، لأن الحكومة عزمت على نفيهما للسودان، لكن قرار النفي لم ينفذ، ولبثا في السجن إلى أن وصل الخبر إلى مستر ماكسويل النائب العام الذي عجب لهذا التصرف المريب وأمر بالإفراج عنهما.
وعاد سعد زغلول للمحاماة عقب خروجه من السجن، و كانت الكرامة الشخصية هي عنوانه الذي يبني على نهجه متن تعامله مع مختلف أنواع الفئات، فكان المثل البارز للكرامة والكفاءة القوية وحسن التعامل وطيب المعاشرة مع الأمراء والأميرات والالتزام بالمساواة، في زمن كان يتسم بالطبقية.
ولم تهبط مهنة المحاماة وسمعتها المتدنية آنذاك بسعد زغلول، ولكن كان سعد زغلول هو من ارتفع بالمهنة وتقدم بها بحسن السمعة، وكانت هي المعجزة الفريدة عما اعتاد عليه الناس، فعُرف سعد بالأمانة والإخلاص في العمل، وبضمان القضية التي توكل له أياً كان نوعهاويستكمل العقاد أن بعدما قضي سعد زغلول ثماني سنوات في تلك المهنة التي استطاع إحداث طفرة حسنة السمعة بها، عرض عليه منصب "نائب قاض".
وكان أول محامي آنذاك يعرض عليه هذا المنصب، الأمر الذي على رغم من إثارته مواطن الاستعجاب في نفوس الكثير، إلا أنهم رحبوا به أشد الترحيب وقوبل بأبلغ آيات الموافقة والرضا من قبل المحامين والقضاه، حتى إنهم أقاموا احتفالا كبيرا معربين من خلاله عن فرحتهم بهذا التعيين.
ويذكر العقاد أن إسماعيل صبري بيك وكيل المحكمة آنذاك قال " إن تعيين حضرة سعد أفندي زغلول في محكمة الاستئناف دليل على أن المحاماة والقضاء شيئان ضريعان" قبل سعد زغلول مهنة القضاء على الرغم من أن مرتبه سابقا في المحاماة كان ضعف مرتبه في مهنته الجديدة، و ومن ثم ترقى سعد في الوظائف القضائية من مرتب خمسمائة وأربعين جنيها إلى مرتب ألف جنيه في السنة، وأحرز رتبة المتمايز عقب سبع سنوات ومن ثم حصل على النوط المجيدي الثالث.
ومكث سعد زغلول في تلك الوظائف أربعة عشر عاما من 1892 - 1906، استطاع خلالهم سعد فرض الفضيلة والشرف وسط طائفة تفتقر لكليهما، وسجل في سجل القضاء أنقى و أوفى الصفحات التي يشهد له بها طوال تاريخه.