الحمد لله على كل حال..
سبقت كتابة الموقف العام من جريمة قتل المصلين فى جمعة نيوزيلندا الدامية عقب حصولها وذلك بعنوان «وقفة أمام الجريمة الإرهابية التى طالت المصلين فى مسجدَى نيوزيلندا» تضمنت بعض التحليلات والمطالبات تتعلق بالحادث وأسبابه ومعالجتها.
ولكن الأسطر التالية موجهة إلى قلوبنا لتسلك مسلك الفقه الربانى فى التعامل مع الأحداث على نحو متصل بمعنى كوننا مسلمين:
فى أول جمعة بعد جمعة نيوزيلندا الدامية نحتاج إلى التوجه نحو المساجد مبكّرين، قدر المستطاع، متطهرين من الأدناس الجسدية بالاغتسال المسنون، ومتطهرين من أدناس الكراهية والأحقاد المعنوية بماء محبة الله تعالى ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
نعم نحتاج إلى أن نملأ مساجدنا فتزدحم بالذاكرين المصلّين مُعلنين أنَّ إجرام المجرمين لن يمنعنا من ذكر الله تعالى وأداء الصلاة، آخذين بقوله عز وجل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ».
وألسِنة أحوالنا شاهدة بأنّ الإرهاب مهما كان سواده فلن يُرهب قلوباً آمنت بالله تعالى ورسخ يقينها بأنه لا راد لقضاء الله القائل: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُون»، وبقوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ»، ومطمئنين إلى خطابه القُدسى: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةَ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِى فِى عِبَادِى * وَادْخُلِى جَنَّتِى».
كما نحتاج إلى أن نتأمل شرف الخاتمة التى أكرم الله بها عباده المُصلين فى مسجدَى نيوزيلندا وهم فى بيته بين راكع وساجد، فتشتاق أرواحنا إلى جنة الرضوان والفوز العظيم، وندرك أنَّ ظلمة الكراهية لا تعود إلا على صاحبها بالأذى، وأنه كلما أمعن فى إرادة تنفيس حقده ومرضه عبر إلحاق الأذى بالآخرين فلن يكون نتاج فعله إلا زيادة رفعة من يكرههم.
فها هى ذى نتيجة جريمة الاعتداء على المصلين قد قلّدَتهم أوسمة الشهادة عند ربهم، وها هى ذى قد حشدت العالم ضد من يحملون فى قلوبهم مرض الكراهية، حتى اضطر كثير من المتطرفين المحرّضين إلى إعلان استنكار الجريمة، وأصبح مَن يُبرِّر لفاعلها فِعلته محلَّ استهجان العالم.
نعم ما أعظم حاجتنا إلى أن تحملنا هذه اللحظة القدسية من التأمل النورانى لمآل الفريقين على أن نرفض كل خطاب يحضّ على الكراهية ويعمل على إسكانها قلوبنا التى خلقها الله لتتنور بمعرفته، كى لا تتدنس أرواحنا التى هى فى الأصل نفخة ربانية نفخها الله من روحه لتحمل جمال محبته إلى العالم الذى استخلفنا فيه: «إنِّى جَاعِلٌ فى الأَرضِ خَلِيْفة».
لنجعلْ من هذه الجمعة فاتحة لإعلان الثبات والعزم على أن نعمّر مساجد الله بالصلاة والذكر بثبات لا يزعزعه إرهاب أو تهديد، وبقلوب لا تقبل الكراهية ولا تُقبِل على من يدعو إليها سواء كانت دعوته من منبر مسجد، أو قُدّاس كنيسة، أو بوق كنيس، أو باسم أى ديانة، أو كانت من على منصة نيابية أو دعاية انتخابية، أو كانت عبر هوس الترويج العِرقى أو الجهوى، أو تكررت عبر إثارة إعلامية جرّدَت حرية التعبير عن مسئوليتها لتتحول إلى معول هدم، أو جاءت عبر تحشيد سياسى يوظّف أياً مما سبق ذكره فى سياق الاحتراب الاقتصادى الأعمى.
خلاصة:
إن المعتدى قد ينجح فى إلحاق الضرر الحسى بك دون أن تكون هناك فرصة لتجنب اعتدائه، لا سيما إذا اتصف بالإرهاب الغادر الجبان، لكنه لا يستطيع إلحاق الضرر الأعمق بآدميتك فيملأ قلبك بالكراهية والحقد إلا إذا سمحت له أنت بذلك ورضيت بأن تنتصر ظلمته عليك فيهزمك ويجرد قلبك من النور.
«لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ».
«إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ».
«وَيُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».
رحم الله من رحلوا إليه فى بيته مُصلّين مُسالمين، وتقبّلهم فى الشهداء مع النبيين والصديقين والصالحين، وأمَدّ قلوب أحبتهم بِمدَدٍ مما أكرمهم به لحظة لقائه فتغمرهم سكينة التسليم والرضا.
وأسأل الله أن يجعلنا ممن أكرمهم بشريف الفهم عنه، والصدق معه، وأن يُذيق أرواحنا من محبته شربة لا يُسلَب أُنسُها، ولا ينطفئ نورها، وأن يهدى الضال، ويقرب البعيد، ويُقبِل بالْمُعرِض، وأن يُطهِّر القلوب بصفاء المحبة، إنه ولى ذلك والقادر عليه.