جمعتنى لقاءات عديدة بالمفكر المصرى الكبير أنور عبدالملك، الذى كنت أركب معه سيارته لندور معاً فى ساحة الكونكورد، ونلف حول المسلة المصرية التى كانت على حد وصفه -يرحمه الله- تُشعرنا بالونس.
كان أول لقاء فى بيته بباريس الثالثة عشرة بالقرب من مترو تولبياك، ولاحظت أن الرجل كان ناقماً على الغرب الذى اتهمه باﻷنانية، فقد كان يشعر بحنين جارف لريح الشرق، فمادية الغرب أعمته عن المشاعر والوجدانيات، وكان يقول لى إنه يعمل أستاذاً فى الجامعة الفرنسية لكن براتب لا يكفيه حتى نهاية الشهر، وفى كل مرة كانت إدارة الجامعة تُشعره بأنه أجنبى من دول العالم الثالث.
واعترف لى الرجل بأن هذا الشعور كان يؤلمه وأنه يتمنى أن يعود يوماً إلى مصر، فكل شىء فيها قد أوحشه، خصوصاً الحياة الشعبية المتدثرة بالطيبة والحنان والانتماء لتراب مصر العزيزة.
اللقاء الثانى كان بإيعاز من الكاتب الصحفى الدكتور أحمد يوسف القرعى، وطلب منى أن أتحدث مع المفكر المصرى أنور عبدالملك فى أمر أن يكتب أسبوعياً فى «الأهرام»، فوافق الرجل شرط أن يكتب مرة كل أسبوعين، وأن أساعده فى أن يستعين بأحد المصريين لكى يُملى عليه، فهو لا يستطيع أن يكتب بيده. وأذكر أننى تحدثت أيضاً مع الكاتب السورى برهان غليون الذى جلست معه فى مقهى قريب من مترو أوديون.
اللقاء الثالث الذى جمعنى بأستاذنا أنور عبدالملك كان فى مكتب «الأهرام» بباريس، عندما فوجئ الرجل بعدد المكاتب والأفراد الذين يعملون، وقال ما هذا التبذير؟ إنك لو ذهبت إلى مراسل جريدة لوموند بالقاهرة لوجدت أنه مراسل فى الشرق الأوسط كله وليس فقط مصر، ثم إنه لا توجد معه سوى سكرتيرة تقوم بكتابة مقالاته والرد على التليفون.. وخلص أنور عبدالملك قائلاً: أبشركم بالخراب القريب.
اللقاء الرابع كان فى باريس الثالثة عشرة التى لا يسكنها سوى أبناء الجالية الصينية، وتبين لى أن الدكتور أنور عبدالملك لم يسكن بشكل عشوائى فى هذا المكان، ولكن لأنه كان شديد الوفاء للفكر الاشتراكى الذى كانت الصين تمثله فى هذه الفترة من وجهة نظره.
ودارت المناقشة حول الفكر الاشتراكى، وكان شديد الإيمان بأن مصر بدأت تهتم بالصين، وحدثنى فرحاً أنه التقى بمراسل «الأهرام» فى الصين، وهذا كان من دواعى سروره.
اللقاء الخامس كان فى مصر وبمنزلى المتواضع، واحتفت به زوجتى الدكتورة فاطمة الحصى، ﻷنها كانت من تلاميذه فى قسم الاجتماع بجامعة عين شمس. والحق أن الدكتور أنور عبدالملك كان سعيداً كطفل لعودته إلى مصر التى يثق أنها ستكون كبيرة فى عيون العالم، مؤكداً أن شعبها طيب وسيحقق المعجزات.
اللقاء الأخير كان فى بيته بمصر الجديدة، وكانت معى الدكتورة سامية الساعاتى والشاعر شعبان يوسف، وكان الدكتور أنور يحنو علينا جميعاً ويعتبرنا أولاده، لكن ثقته بمصر كانت لا محدودة، ودائماً كان يقول إن غدنا أفضل من حاضرنا.
رحم الله أنور عبدالملك، فبعضٌ مما قاله قد تحقق.