فى أواخر ثمانينات القرن الماضى، كلفتنى جريدة «الأهالى» بتغطية ندوة نظمتها الهيئة العامة للاستعلامات، وأدارها الراحل الدكتور ممدوح البلتاجى، رئيس الهيئة وقتئذ، وشارك فيها الدكتور مصطفى الفقى وكان يشغل موقعه سكرتيراً لرئيس الجمهورية للمعلومات، والراحلان حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومى فى عهد الرئيس السادات، والكاتب والمفكر اليسارى لطفى الخولى، ووجه أحد الحاضرين من الجمهور انتقاداً حاداً إلى «الخولى» بأنه وبقية الماركسيين يهوون جَلد ذواتهم، بدليل استمرار تقديرهم للرئيس جمال عبدالناصر حتى بعد رحيله، والمثير للدهشة قيامهم (الماركسيين) بتأييده وهم معتقلون بأوامر منه شخصياً، وذلك عكس أعضاء جماعة الإخوان المعتقلين معهم فى الوقت نفسه، وظلوا على عدائهم لعبدالناصر فى حياته وبعد مماته.
اعترض الدكتور البلتاجى على السؤال الخارج عن موضوع الندوة، لكن «الخولى» رحب بالرد على السؤال بعد أن أشار إلى أن صاحبه ربما يكون من «الإخوان» أو «السلفيين» وهو ما يتبدى من لحيته الكثيفة وحرصه على الحديث بالعربية الفصحى، رغم ضعفه الواضح فى الإلمام بقواعد النحو.
قال «الخولى» مجيباً: كنا وقتها أعضاء فى تنظيمات شيوعية تسعى لقلب النظام، وبطبيعة الحال تم اعتقالنا بأوامر من رأس النظام الذى كنا نريد الانقلاب عليه، وهو إجراء طبيعى من أى حاكم سواء كان ديكتاتوراً أو ديمقراطياً. وأضاف «الخولى» -وهذا هو الأهم- قائلاً: أما عن تأييدنا لعبدالناصر فذلك يعود إلى أننا كنا نملك برنامجاً اجتماعياً ووطنياً لصالح الفقراء والمهمشين وهم الأغلبية الكاسحة من المصريين حتى خمسينات القرن العشرين، وناضلنا من أجل تحقيقه، ووجدنا الرجل (عبدالناصر) يتجاوز برنامجنا وطموحاتنا بقانون الإصلاح الزراعى، وخططه للتصنيع، وتنويع مصادر السلاح، وغيرها من القرارات والسياسات التى لم نجد معها مفراً من إعلان تأييدنا له، دون أى أمل فى الإفراج عنا.
وفسر «الخولى» ذلك الموقف بأن اليساريين هنا تجردوا من ذواتهم لصالح الوطن والشعب المصرى، وذلك خلافاً للإخوان الذين لم يكن يهمهم إلا التنظيم (الجماعة) الذى ينتمون إليه، ولم يستطيعوا إنكار الذات تحقيقاً للمصلحة العامة.
تذكرت ذلك المشهد بمناسبة زيارة الممثلين خالد أبوالنجا وعمرو واكد للكونجرس الأمريكى، بحجة عرض ما يريانه كمعارضين للأوضاع فى مصر، وهى فى رأيى جريمة خيانة عظمى تستوجب محاكمتهما، والقضية هنا لا ترتبط بما طرحاه هناك، ولست مضطراً لتفنيد أكاذيبهما، ولن أجتهد فى طرح الأدلة على قيامهما بتزييف الحقائق، فالجريمة هنا تتمثل فى استقوائهما بالصديق أو العدو -أترك التصنيف لك عزيزى القارئ حسب موقفك- الأمريكى، وتحريضهم له على التدخل فى الشأن المصرى، ولا أعرف ما إذا كانا قد طلبا من الأمريكيين فرض الحصار الاقتصادى على مصر مثلاً لإجبار شعبها على الثورة ضد النظام، أو ناشدا «ترامب» غزو بلدنا عسكرياً.. خيانة ما بعدها خيانة، وغباء لا مثيل له، فأمريكا التى لم تنفع الإخوان وهم فى الحكم، لن يمكنها مساعدة هذين التافهين اللذين يمثلان دور المعارضين.. والخيانة العظمى لا مبرر لها، وتوجه هذه التهمة إلى من يتصل بدولة خارجية بهدف تقويض الأمن والاستقرار فى بلاده.
نعود إلى ما بدأت به عما ذكره لطفى الخولى من إنكار الذات من أجل الوطن، وأتذكر عدم استقواء الشيوعيين المصريين المعارضين بالاتحاد السوفيتى كقوة عظمى فى مواجهة عبدالناصر، وأتذكر أيضاً مقولة الراحل البابا شنودة «لو أمريكا ستحمى أقباط مصر، فليمت الأقباط ولتحيا مصر».
يا سادة.. كما أن مصلحة الوطن لا تحتمل الفصال، فالخيانة لا تحتمل وجهات النظر.