يوم الخميس الماضى، تم إلقاء القبض على جوليان أسانج، رجل «ويكيليكس»، الذى رقصت الدنيا على أنغام تسريباته لأكثر من عشر سنوات، لتُطوى بذلك صفحة مفعمة بالإثارة من صفحات الإعلام الدولى.. الصفحة كان عنوانها «أزهى عصور التسريبات».
لقد أطلق «أسانج» موقعه الإلكترونى «ويكيليكس» فى العام 2006، زاعماً أنه يقوم بعرض مادة حصل عليها نشطاء وصحفيون من أكثر من دولة، ومعلناً أن بحوزته نحو 1.6 مليون وثيقة مهمة وخطيرة.
بعدها بدأ العالم يتابع دراما أسانج، التى صنعها بتسريباته الخطيرة والانتقائية، ومن خلالها أمكننا أن نطلع على ما قاله سفراء ووزراء وقادة دول فى قاعات محكمة الغلق، أو فى جلسات ودية لتناول الشاى، أو عبر أسلاك الهواتف.
استطاع العالم بسبب هذا الموقع أن يقرأ نصوصاً ووثائق وتفريغاً للعديد من المكالمات الهاتفية، وأن يحصل على رسائل مرسلة من بعثات دبلوماسية إلى الحكومات التى تتبع لها، مما كشف العديد من وقائع الاغتيال ذات الطابع الدولى، وبعض وقائع الفساد التى طالت رؤساء دول وحكومات ومسئولين رفيعى المستوى، وطيفاً عريضاً من المؤامرات السياسية، فضلاً عن عشرات الأحاديث التى تمت بين سياسيين بارزين، والتى يمكن وصفها بأنها ببساطة «نميمة سياسية»، تعكس مواقف حادة ومتباينة، ولم تكن معروفة فى العلن.
لم يكن «أسانج» نجم عصر التسريبات الزاهى الوحيد، بل انضم إليه آخرون، مثل إدوارد سنودن، الذى استطاع عبر تسريباته أن يدفع الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما إلى الاعتراف، فى أكتوبر من العام 2013، بأن حكومته أجرت عمليات تنصت ومراقبة بحق أشخاص، ومسئولين، وأعضاء فى الكونجرس، وأيضاً بحق بعثات أجنبية، وحكومات، وأجهزة أمنية تابعة لدول أخرى، بعضها من الدول الحليفة مثل ألمانيا وفرنسا.
لقد جاء اعتراف أوباما على خلفية قيام «سنودن»، العميل الأمريكى فى جهاز الأمن القومى، بالكشف عن قيام هذا الجهاز بعمليات تنصت وانتهاك خصوصية واسعة النطاق.
لدينا بطل آخر من أبطال التسريبات التى هزت العالم، وهو بطل قصة «وثائق بنما».
يؤكد باستيان أوبرماير، الصحفى الذى يعمل بصحيفة «زودويتشه تسايتونج» الألمانية، أن شخصاً يطلق على نفسه اسم «جون دو» اتصل به عارضاً عليه إعطاءه معلومات غاية فى الأهمية بغرض نشرها.
تنقل «واشنطن بوست» عن «أوبرماير»، فى أبريل 2016، قوله: «كنت فى مناوبة عمل فى الصحيفة، حين وردنى اتصال من شخص مجهول، باغتنى قائلاً: (آلو.. أنا جون دو.. هل تريدون معلومات؟)».
فى حال كانت رواية «أوبرماير» صحيحة، فقد بادر شخص ما بالاتصال بالصحيفة عارضاً تقديم 11.5 مليون وثيقة من الوثائق المحفوظة فى أرشيف معلومات شركة المحاماة البنمية «موساك فونسيكا»، وهى وثائق تكشف وقائع فساد وشبهات تتعلق بآلاف من أهم السياسيين ورجال المال والأعمال فى عدد كبير من دول العالم.
بحسب «أوبرماير»، وصحيفته، فقد تم بناء علاقة مع المُسرِّب «جون دو»، وعبر اتصالات طويلة، جرت من خلال وسائل تشفير وتقنيات حماية، تم نقل الوثائق لتصبح بحوزة الصحيفة الألمانية، ومن ثم إطلاق عملية تعاون عبر مشاركة المعلومات مع عشرات المؤسسات الإعلامية الشهيرة عبر العالم.
يقول «أوبرماير» إن النهوض بعبء فحص الوثائق وفرزها وتصنيفها وتدقيقها، فضلاً عن نشرها، عمل ضخم ومكلف، إذ يكفى أن نعرف أن تلك الوثائق فى حال نشرها يمكن أن تصدر فى 38 ألف كتاب من القطع المتوسط.
ولذلك، فإن الصحيفة لجأت إلى فكرة «الاتحاد قوة»، وذهبت إلى الاتحاد الدولى للصحفيين الاستقصائيين، الذى يقع مقره فى الولايات المتحدة، وتموله جهات ومنظمات أمريكية.
أراد «الاتحاد» أن يجعل من قضية «أوراق بنما» عملاً منهجياً متكاملاً، كما قالت نائبة المدير مارينا جيفارا، ولذلك، فقد تمت مشاركة المعلومات مع 370 صحفياً من أعضاء الاتحاد، ينتمون إلى نحو 100 مؤسسة إعلامية.
إن تلك المنهجية تطلبت وقتاً وجهداً وإجراءات أمن وحماية بالغة الدقة، لكنها فى الوقت ذاته، مكّنت «الاتحاد» من تحقيق جملة من الأهداف، أولها يتصل بالموثوقية الناجمة عن تدقيق الوثائق، وثانيها يتعلق بحماية الناشرين، لأن عددهم أكبر من أن يسمح باستهدافهم، وثالثها يتصل بسعة الانتشار، حيث ستقوم كل مؤسسة بالنشر فى محيطها المحلى، بما يضمن انتشاراً كبيراً للمعلومات.
واستناداً إلى ذلك، فقد قامت وسائل الإعلام المائة باختيار ما يناسبها من طوفان المعلومات المسفوح وقامت بنشره.
لقد تبرع هؤلاء «الناشطون» إذاً بنشر ملايين الوثائق والأسرار الحساسة والمُصنَّفة سرية، قبل أن يتعرض معظمهم لملاحقات ذات طابع قانونى، أفضت بهم فى معظم الأحيان إلى التوقيف والسجن.
وبموازاة الدهشة والاهتمام والإثارة التى واكبت كل تسريب، لم تتوقف الأسئلة عن طبيعة المسربين، وأهدافهم، والوسائل التى استطاعوا من خلالها اكتشاف «مناجم المعلومات» النفيسة.
يستبعد بعض النقاد أن يتم التعاطى مع هؤلاء المسربين باعتبارهم صحفيين، بما يُمكّنهم من التمتع بما تقرره القوانين والعهود الدولية من حماية واجبة لأنشطتهم المتعلقة بنشر الحقائق ذات الصلة بأولويات الجمهور والمصالح العامة. ويقدم هؤلاء النقاد ذرائع وجيهة لذلك، أهمها أن الصحافة يجب أن تقدم معلومات متوازنة ومُعالجة فى إطار قصص مكتملة، وليس تسريبات تستهدف إدانة أشخاص أو جهات بعينها بشكل انتقائى.
وفى المقابل، يعتقد هؤلاء المسربون أنهم جديرون بالحماية، بداعى أنهم «يكشفون الفساد، ويتحدون جبروت السلطات، ويستخدمون حق حرية الرأى والتعبير».
لكن تلك الذرائع لا تبدو مقنعة، فى ظل ما تكشَّف من وقائع عن انتقائية معظم تلك التسريبات، وخدمتها لمصالح سياسية محددة.
بالنسبة إلينا كصحفيين، يجدر بنا أن نرحب بالتسريبات، طالما أننا سنعالجها صحفياً، وسنتأكد أنها لا تخرق قاعدة مهنية أو قانوناً نافذاً، وسنقدمها من خلال قصص متوازنة مكتملة، وسنتيح للأطراف المتضررة من نشرها أن تدلى بآرائها وتشرح مواقفها.
تعكس ظاهرة التسريبات تطوراً فى الصراعات السياسية بمواكبة التقدم المذهل فى بيئة المعلومات والاتصالات، وهو تطور يجب أن تستفيد منه الصحافة، لكن لتلك الاستفادة شروطاً حاكمة يجب عدم تجاهلها.
أما «أسانج» فقد دخل إلى خشبة المسرح العالمى من باب السياسة باعتباره «بطل معلومات»، وخرج إلى المحاكمة من بابها أيضاً باعتباره «منتهك قانون».