تأخر قوات الجيش الوطنى الليبى فى حسم معركة طرابلس يفتح الباب أمام تطورات أشد خطورة وأكثر تعقيداً. طبيعة المعركة عسكرياً تفرض مثل هذا التأخر لسببين رئيسيين، الأول وجود المدنيين فى أحياء عدة بالمدينة، ما يجعل عملية التقدم العسكرى إلى قلب العاصمة بطيئاً وحذراً فى الآن نفسه. والثانى أن المجموعات المسلحة والميليشيات الموالية لحكومة السراج تدافع بشراسة عن مواقعها، لأنها تدرك ببساطة أن هزيمتها فى طرابلس تعنى نهاية وجودها كمشروع سياسى يستنزف ليبيا ككل اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. والسببان معاً يضعان الكثير من الضغوط على تحركات الجيش الوطنى الليبى. ومع ذلك فليس هناك أى بديل من استمرار المعركة وصولاً إلى هدفها الأول، وهو تحرير العاصمة من المسلحين وإعادتها إلى دورها الطبيعى كعاصمة لكل ليبيا وليس لجزء منها شعبياً وسياسياً.
تقدم الجيش الليبى الذى تم فى الأسابيع الثلاثة الماضية يواجه تهديدات كبرى، بسبب التدخلات الخارجية وحالة الاستقطاب الدولى التى ظهرت ملامحها فى الفترة الماضية وتحول دون الوصول إلى رؤية أممية قابلة للتحقيق، لفرض تسوية سياسية شاملة بدون ميليشيات أو جماعات إرهابية، كما يحفّز هذا الاستقطاب الدولى والإقليمى تحوّل ليبيا إلى نموذج آخر من سوريا، حيث تتدخل قوى دولية عديدة متناقضة فى أهدافها، وكل منها يقف خلف أحد طرفى الصراع الليبى لأسباب لا علاقة لها بالشعب الليبى، وإنما بمصالح تلك القوى بالدرجة الأولى. المؤشرات على مثل هذا التحول الخطير آخذة فى التزايد، آخرها إعلان الرئيس التركى أردوغان فى مكالمة هاتفية دعمه الشخصى لحكومة فايز السراج بكل السبل، ما يعنى أن الدعم التركى لن يقف عند حد التأييد السياسى، بل سيمتد إلى الجانب العسكرى.
المسألة بالنسبة لتركيا ليست حكومة السراج فى حد ذاتها، بل فى تعزيز دور الميليشيات الإخوانية المسلحة، والحيلولة دون هزيمتها، إذ فى هذه الحالة سيعنى هزيمة تامة للمشروع التركى العثمانى فى المنطقة العربية، لا سيما أن مشروع الوجود التركى العسكرى فى جزيرة «سواكن» السودانية بالبحر الأحمر سيواجه صعوبات وتعقيدات جمّة نتيجة التطورات الداخلية السودانية وذهاب «البشير» عرّاب النفوذ التركى فى السودان. كما أن العقوبات الأمريكية على إيران، لا سيما حظر تصدير النفط الإيرانى، تحول دون استمرار أنقرة فى الالتفاف على تلك العقوبات، أو مواجهة عقوبات اقتصادية أمريكية لا قبل لتركيا بها.
إن دخول «أردوغان» على خط الصراع فى ليبيا ليس جديداً، فكثيراً ما اكتشفت سفن تركية وهى محملة بالأسلحة والذخائر والعربات المدرعة والمتجهة إلى ميليشيات الإخوان فى مصراتة، والمرجح أن تمارس أنقرة دوراً تخريبياً كالذى مارسته فى سوريا منذ مارس 2011 وإلى الآن. وبينما أسهم القرب الجغرافى فى قيام تركيا بدور المعبر لعدة آلاف من الداعشيين للدخول إلى أراضى سوريا والعراق، فضلاً عن الاندفاع العسكرى واحتلال أراضٍ واسعة شمال سوريا بحجة مواجهة الإرهاب الكردى، فإن العامل الجغرافى بالنسبة لليبيا يجعل الدور التركى مرهوناً بدعم الميليشيات الليبية التابعة للإخوان بالسلاح وبالبشر فى صورة العناصر الإرهابية التى اجتذبتها المخابرات التركية من جنسيات عديدة، وأطلقتها للعبث بمصير سوريا، ومن الممكن أن يتم توجيه العديد من هؤلاء إلى ليبيا للوقوف أمام حملة الجيش الوطنى الليبى لتحرير العاصمة طرابلس.
تركيا التى تعيش أزمة سياسية واقتصادية خانقة، وتحيط نفسها بالعديد من الخصوم الإقليميين، تلجأ إلى سياسة الهروب إلى الأمام، والاندفاع نحو التورط أكثر فى أزمات هنا وهناك، لإثبات الوجود والتخفّف من انتقادات الرأى العام التركى التى ارتفعت وتيرتها مؤخراً. وهى سياسة يجيدها الرئيس أردوغان بحرفية عالية من أجل لفت الأنظار بعيداً عن ارتفاع مستوى السخط الشعبى ضد سياسات حزبه وحكومته وهو شخصياً، والذى تجسد فى فقدان حزب العدالة والتنمية رئاسة بلديات عدة مدن كبرى لصالح مرشحى أحزاب المعارضة لاسيما الحزب الجمهورى. وهى الهزيمة الانتخابية التى جرّأت بعض الرموز المهمة فى حزب «أردوغان» لتوجيه انتقادات علنية للطريقة التى يحكم بها أردوغان.
ففى وثيقة النصيحة التى وجهها أحمد داود أوغلو، رئيس الوزراء الأسبق، ومنظّر العثمانية الجديدة، للرئيس أردوغان، مجموعة من الانتقادات التى تركز على ما سببه النظام الرئاسى من مخاطر على الوضع السياسى التركى ودعوة إلى تغيير هذا النظام، وتحليل تراجع الحزب فى الانتخابات البلدية ومخاطر استمرار الحكم بيد مجموعة محدودة من المقربين لأردوغان لا يحترمون آراء قيادات الحزب التاريخية ويتسببون فى تراجع الحزب جماهيرياً وبما يشكل تهديداً لمصير الحزب والرئيس أردوغان نفسه وكل الشعب التركى، حسب أحمد داود أوغلو. والمستبعد أن يتعامل «أردوغان» مع تلك النصائح بإيجابية، وربما يمهد ذلك إلى قيام عدد من قيادات حزب العدالة والتنمية، ومنهم عبدالله غل وأحمد داود وعلى باباجان، بتشكيل حزب جديد يعبرون من خلاله عن سياسات أقل تورطاً فى المشكلات الخارجية وتعيد للأتراك مجالاً أرحب فى الحريات فقدوها على يد رئيسهم. وكثير من المؤشرات يصب فى ذلك الاحتمال، وحال حدوثه سيكون بمثابة ضربة قاصمة للرئيس أردوغان شخصياً.
السخط الشعبى الداخلى بما فى ذلك ابتعاد رموز حزبية عن دعم سياسات الرئيس أردوغان، تدفعان إلى استعجال الانخراط فى أزمة إقليمية بزعم الدفاع عن حرية الشعوب، وهو ما تزداد مؤشراته بالنسبة لتدخل تركى عسكرى فى الصراع الليبى. لكن الأمر سيكون بثمن وغالباً باهظ، ففى هذه الحالة ستعد أنقرة شريكاً مع الميليشيات المسلحة والإرهابية فى هدم الدولة الليبية، وضد حق الشعب الليبى فى مواجهة الإرهابيين واستعادة دولته ومؤسساتها المختطفة، وتكون أيضاً فى مواجهة القوى الكبرى والإقليمية التى تساند حملة الجيش الوطنى الليبى لتحرير طرابلس، لا سيما الولايات المتحدة وفرنسا ومصر.
وفى إطار الخبرات الديماجوجية التى يتمتع بها الرئيس أردوغان، فالمؤكد أنه سيوظّف تلك الخبرات فى الدعاية الفجة بالمشاركة مع قطر لكل ما من شأنه أن يقيد حركة الجيش الوطنى الليبى، وسيعيد تكرار أدواره الخبيثة فى سوريا والعراق، ودعم داعش حين كان لها وجود على أجزاء من سوريا والعراق. وفى هذه الحالة فعلى الدول المساندة للجيش الليبى ألا تتوانى فى تقديم كل صنوف الدعم والمساندة السياسية والعسكرية والدعائية، وفى تفنيد مبررات أردوغان، وفضح سياسة أنقرة فى تخريب المجتمعات العربية، وتعزيز التقارب مع كل فئات الشعب الليبى التوّاقة إلى ممارسة سيادتها وحريتها بلا إرهابيين يتحكمون بعاصمة الدولة.