هوية خارج الحدود: هنا فلسطين من القاهرة
صور ومقتنيات مصرية وفلسطينية داخل «جاليرى حيفا» فى وسط البلد
رغم مرور 71 عاماً على ذكرى النكبة الفلسطينية، واحتلال القوات الإسرائيلية لأكثر من ثلثى الأراضى الفلسطينية، لكنهم لم ينسوا أبداً وطنهم الأم، وظل بداخلهم ذلك الشريان الخفى الذى يمدهم بكل الحب والانتماء لكل ما هو فلسطينى.
إنهم أبناء فلسطين الذين لم يروها، أو يشاهدوا ترابها المقدس إلا من خلال زيارات خاطفة لا تسمن ولا تغنى من جوع، عاشوا طوال حياتهم خارج حدودها، لكنهم عرفوا تاريخها، وحفظوا تراثها، وسعوا لترسيخ عاداتها وتقاليدها، حتى تظل ذكراها حية فى النفوس، وهناك البعض الآخر الذى لم يكتف بذلك النزر اليسير من حب فلسطين، وسعى إلى العمل على إحيائها بشكل مختلف، مرة باستخدام الثقافة، ومرة بالرقص، وثالثة باستخدام التطريز، أو تصميم الملابس، أو الكتب والأبحاث التى توثّق شهادات الفلسطينيين المهجّرين والنازحين، وتكشف عن بطولاتهم فى الدفاع عن أوطانهم.
فى ذكرى النكبة الـ"71" اليوم.. "الوطن" ترصد محاولات الحفاظ على تراث "أرض الرسالات"
فى ذكرى النكبة التى توافق الـ15 مايو من كل عام نحاول إلقاء الضوء على هؤلاء الذين قرروا أن تكون فلسطين حاضرة دوماً فى الوجدان، فاختاروا أعمالاً أو هوايات تحقق هذا الهدف، رغم مئات الأميال التى تفصلهم عن حدودها.. لكنّ حلماً واحداً يحركهم فى تلك المشروعات الفلسطينية الهوى على أرض مصرية هو ألا تنسى الأجيال الجديدة أرضها وتاريخها، وأنه إذا حان موعد العودة للأرض، فليكن أهل فلسطين جاهزين للبدء من جديد.
1) "جاليرى حيفا".. أهلاً بكم فى فلسطين بـ"وسط البلد"
«أنا رايح على حيفا» كلمات تعلمها محمود العطار منذ صغره، ويدرك أنها لا تعنى العودة إلى «حيفا» مسقط رأسه فى فلسطين، بل يستخدمها النازحون والمهجّرون الفلسطينيون خصوصاً أهل غزة عقب النكبة للتعبير عن الحنين للأرض، ولوعتهم بعد فراقها، ولهذا السبب كان اختيار «محمود» الأول لاسم المركز الثقافى الذى قام بتأسيسه فى منطقة وسط البلد «جاليرى حيفا» ليكون بقعة فلسطينية صغيرة تشع ضوءاً مليئاً بالتراث والتاريخ الفلسطينى بعيداً عن الرسميات، وقريبة من عقل الشباب الفلسطينى الصغير الذى لم ير أرضه إلا فى شاشات التلفاز، فى محاولة لإحياء جذوة الانتماء الفلسطينى وإعادة إشعالها من خلال الأنشطة الفنية والثقافية.
ولد «محمود» فى مصر لأب وأم يحملان «الباسبور» الفلسطينى، وهو ما صنع حبلاً «سريّاً» لا يُرى بينه وبين فلسطين من الحب والرهبة والانتماء غير المحسوس، فالحكايات لا تتوقف فى البيت الصغير عن الجد الذى ترك بيته فى «أسدود»، وهو فى الـ14 من عمره هرباً من طلقات رصاص عصابات الاحتلال الإسرائيلية آنذاك، وجاء إلى مصر وعمل وتزوج من مصرية، ورغم نجاحه واستقراره الكبير فى شركة «المقاولون العرب» وانجابه البنين والبنات، فإنه لم ينس أبداً بلاده، وظل مصمماً على العودة للبحث عن عائلته، وبالفعل عاد إلى غزة فى السبعينات وعثر على أشقائه الـ10 وعاش معهم لفترة. «أمى كان بداخلها خوف من فكرة نسيانى أنا وأشقائى لهويتنا، خصوصاً بعد أن رأت ابتعاد الجيل الفلسطينى الصغير عن هويته ولهجته بسهولة والاندماج الشديد فى البيئة المحيطة، ولكنها مع أبى الذى يعمل مدرساً فى «الأونروا» عملا على غرس الانتماء لفلسطين داخلنا، حتى إن لم نكن نعيش بها»، هكذا تحدث «محمود» صاحب الـ27 عاماً، خريج كلية تجارة بجامعة القاهرة عن جهود أسرته للحفاظ على هويتهم.
"محمود": بدأنا العمل 2017 بتمويل ذاتى.. والفن طريقنا للمقاومة وحماية التراث من الضياع
سفره إلى غزة مع والدته عام 2006 كان مثل مصباح أضاء حياته وكشف له عن الكثير فى علاقته ببلده الأم فلسطين، وأضاف: «الأقدار كان لها رأى آخر فى حياتى، فبعد سفرى مع والدتى لغزة لزيارة أهلها، كنت أظنها زيارة عابرة ستمتلئ بعبارات الحنين ومشاعر الشجن، ولكن تصادف وجودى خلال القصف الذى قامت به القوات الإسرائيلية لمدة ثلاثة شهور، وكنت أرى كل شىء «صوتاً وصورة» وليس مجرد لقطات مسجلة على التلفاز، رأيت الشهداء والمحاصرين الصامدين، وتكررت زيارتى حتى عام 2013 وعدت وبداخلى تصميم على ضرورة الحفاظ على الهوية الفلسطينية من الضياع».
«جاليرى حيفا»، كان الترجمة الفعلية لمشاعر «محمود» مع أخيه «سامح» خريج نظم معلومات، حيث أسسا مركزاً ثقافياً يقدم كل ما له علاقة بفلسطين، وبه خمسة أقسام، الأول لعرض المشغولات اليدوية الفلسطينية، والثانى لتعليم الفنون المختلفة مثل الموسيقى والرسم، وقسم للسينما والمسرح، ومساحة عمل مشتركة، وفى النهاية مقهى صغير لمن يريد الاستمتاع بالأجواء الفلسطينية، وتابع: «بدأنا العمل التجريبى منذ عام 2017، ولكن الظهور الفعلى كان فى العام الماضى، وكله بتمويل ذاتى، واخترنا مجال الفنون، لأن عائلتنا لها باع طويل فى هذا الأمر، فأنا تعلمت الموسيقى وإلقاء الشعر والنحت فى الخشب وندرك أن الفن هو وسيلتنا للمقاومة، وهو الطريق الوحيد للحفاظ على تراثنا من الضياع».
2) السيدات يناضلن بالأبحاث والرسائل العلمية: نوثق حكايات المهجّرين
منذ ولادتها فى نابلس فى منتصف الخمسينات من القرن الماضى، تعيش صباح الخفش فى نضال مستمر من أجل القضية الفلسطينية، ولكنه نضال غير تقليدى يقوم على الأبحاث والرسائل العلمية التى تؤصل للقضية الفلسطينية، وتوثق شهادات المهجّرين، وتقدم حكايات لمشاركات النساء فى الثورات الفلسطينية، وهو نضال لا تُستخدم فيه المركبات العسكرية أو الآلات الثقيلة، بل يلجأ إلى التجمعات الثقافية وتنظيم الأنشطة للأطفال من أجل إحياء التراث الفلسطينى، ليس فقط فى نفوس الصغار بل الكبار، حتى لا ينسوا أبداً «سيدة الأرض.. فلسطين» كما قال محمود درويش.
تعيش «صباح» فى مصر منذ عام 1962، بعد أن جاء والدها إلى مصر مع العائلة هرباً من مطاردة السلطات الإسرائيلية، عقب دعوته لتأسيس نقابات عمال للفلسطينيين، لتكون ظهيراً للمقاومة الفلسطينية ضد العصابات الإسرائيلية التى دخلت فلسطين بمذابح وجرائم لا حد لها. ولأن «صباح»، الابنة الكبرى وسط 8 أبناء، فقد فغرس فى وجدانها مبكراً أهمية القضية الفلسطينية، وأن التوقف عن النضال يعنى موت القضية إلى الأبد.
عضوية اتحاد المرأة الفلسطينية فى القاهرة هى الخطوة التى لجأت إليها «صباح» عقب زواجها، كسلاح لها فى معركتها لإحياء الهوية والتراث الفلسطينى، أملاً فى العودة للأرض المحتلة فى أحد الأيام بعد تحريرها، ومن خلال اللجنة الثقافية التى تولت رئاستها كان هناك الكثير من الأنشطة التى تحقق هذا الهدف.
"صباح": "الحق لازم يرجع لأصحابه.. وإحياء تراث وتاريخ فلسطين مستمر.. ونُعلّم أولادنا أننا سنحرر أرضنا"
«بدأنا بتأسيس كورال عباد الشمس وهو لأبناء الفلسطينيين، وفيه نقوم بتحفيظهم كل الأغانى والأناشيد التراثية الفلسطينية، وكان الهدف الحفاظ على اللهجة الفلسطينية، كما قررنا إحياء تقليد سنوى لتكريم المرأة الفلسطينية المناضلة منذ عام 1918 حتى الآن بالتزامن مع يوم المرأة العالمى، كما رصدنا الأيام التاريخية فى حياة الفلسطينيين، ونحتفل بها حتى لا ينساها الفلسطينيون الذين يعيشون فى مصر، هذا إلى جانب اللقاءات الثقافية التقليدية». لم يتوقف نشاط «صباح» على مدار أكثر من 35 عاماً، حيث بدأ منذ أوائل التسعينات، وقد اختارت أن تحول جزءاً من نشاطها إلى دراسات بحثية باعتبارها أكثر الطرق الآمنة للحفاظ على التاريخ الفلسطينى موثقاً، فيسهل على الأجيال الصغيرة الاطلاع عليه: «عملنا دراسات عن المشاركة السياسية للمرأة الفلسطينية تبع جامعة بير زيت الفلسطينية، ثم عملنا دراسة أخرى عن وضع المرأة الفلسطينية والطفل تبع اليونيسيف، ثم انتقلنا إلى التأريخ الشفوى السياسى للمرأة الفلسطينية».
تُنهى «صباح» حديثها بأن كل ما تفعله هو غرس بذور الانتماء للأرض الفلسطينية: «الحق لازم يرجع لأصحابه، وإحياء التراث والتاريخ الفلسطينى مستمر من ناحيتى وكل من حوله حتى نرى صداه فى عودتنا إلى بلادنا بعد تحريرها».
3) التطريز توثيق فنى لإبداعات النساء.. "راجعين"
لم تنسَ رافية على مطلقاً حكايات والدها عن فلسطين، ولا شكل المفتاح النحاسى الكبير لبيتهم فى حيفا، الذى ظل يعلقه فى رقبته على أمل العودة فى أحد الأيام بعدما تركوها غصباً عنهم بعد النكبة، ولم يفارق بصرها شكل والدتها وهى تطمئن بشكل يومى على «صك» بيتهم عقب كل خبر ينتشر عن وجود مصالحة أو تفاوض قد يتيح للفلسطينيين رؤية أرضهم من جديد. آمال وأحلام والدى «رافية» التى لم ترَ النور حتى الآن، دفعتها إلى التعلق بالقضية الفلسطينية، والعمل على إحياء التراث الفلسطينى من خلال فن «التطريز» الذى يعد فلكلوراً فلسطينياً أصيلاً، وعلى مدار 20 عاماً لونت «رافية» صاحبة الـ65 عاماً، الكثير من الأثواب، والوسائد، والستائر، وملابس الأطفال، والمرايا، ومختلف قطع الأثاث بالخيوط والأشكال الفلسطينية الزاهية، «لتبث الروح فيها من جديد، لكنها روح فلسطينية خالصة».
«بعد تهجير والدى، ذهبنا جميعاً إلى لبنان، ثم انتقلت إلى الحياة فى مصر بعد زواجى، ولما اختلطت بالجالية الفلسطينية، أدركت أهمية التراث الفلسطينى، الذى غرس أبى بذوره فىّ منذ صغرى، وشعرت بالحزن، لأن هذا التراث يندثر، فقرّرت أن أحييه بإعادة فن التطريز الفلسطينى إلى الأضواء، من خلال تطويره ليُلائم الجيل الحالى»، هكذا تحدثت «رافية»، التى تعيش فى مصر منذ 38 عاماً، مع زوجها وبناتها الأربع بمدينة الشيخ زايد، وترى أن البعض لا يدرك أن الصهاينة يحاولون سرقة فن التطريز الفلسطينى، ونسبه إلى أنفسهم دون حياء، لذا فما تقدّمه ليس فقط شيئاً جمالياً متعلقاً بالملابس أو الديكورات المنزلية، بل يعد توثيقاً لتطريز كل مدينة وقرية فى فلسطين.
"رافية": أعيش فى مصر منذ 38 سنة وحلم العودة إلى بيتنا فى حيفا لم يغِب عن الذاكرة
«رافية» لا تقوم بالتطريز بنفسها، بل تملك جيشاً من النساء الفلسطينيات اللاتى يقمن بالتطريز بعد أن ترسم التصميمات وتحدّد نوع القماش المستخدم وأنواع الإكسسوارات، التى سيتم وضعها. وعن هذا التعاون، قالت: «نفعل ذلك لضمان أن نقدم شكلاً فلسطينياً مميزاً نمزج تطريز أكثر من مدينة معاً، فى أحد الأثواب، مزجت التطريز الخاص بمدينة رام الله بتطريز مدينة نابلس وحيفا معاً، وهذا تطلب منى اطلاعاً وقراءة مستمرة لمعرفة وحفظ تطريز كل بلدة فلسطينية».
4) "الدبكة" سلاح "طبيب أسنان" للحفاظ على الهوية
جلس أسامة حميد فى صمت يراقب مدى التزام أعضاء فرقة «كنعان للثقافة والفنون الشعبية» بالحركات الراقصة التى اختارها لهم على الأغنية الفلسطينية التراثية «يا ظريف الطول»، حيث يعمل مصمماً لرقصات الفرقة. أطلق «أسامة» العنان للذكريات فعاد به الزمن عندما كان يتدرب وهو فى سن الـعاشرة داخل معهد إدوارد سعيد فى القدس على عزف العود والدرامز وكذلك الغناء. يعيش «أسامة» فى مصر منذ 5 سنوات، لكنه ما زال الفلسطينى الذى يعمل على ربط تاريخه بحاضره ليرسم شكل مستقبله، ولا ينسى فى خضم رحلته أن وطنه له عليه حق وهو الحفاظ على تراثه ونقله للأجيال الصغيرة، وعن هذه التجربة قال: «جئت إلى مصر من غزة لدراسة طب الأسنان بالإسكندرية، بعد إصرار من والدتى التى تعشق تراب مصر، فقد درست هى الأخرى فى صغرها بجامعة عين شمس. ينتمى «أسامة» إلى أسرة فلسطينية مناضلة لا تتوقف عن الدفاع عن فلسطين، وحفظ تراثها، وحماية أبنائها، بدءاً من جده عبدالحافظ عبدالحميد أحميد الذى كان أحد الثوار الرئيسيين فى ثورة فلسطين الكبرى عام 1936 ضد الإنجليز.
"أسامة": أسست مع أخى فرقة "أرضنا" لإحياء الفلكلور الفلسطينى وتعريف الناس بتراثنا
الرقصات الفلسطينية متنوعة وكثيرة، والحفاظ عليها ليس أمراً ترفيهياً لأن كل رقصة وأغنية تروى حكايات المهجرين وقصص الحنين الذى يغلب النفوس، وتغرس فكرة العودة للأرض، أما التصميم فهو مهم لأن الدبكة تعد فناً تراثياً، ولابد من إدخال التجديدات المناسبة عليها لتلائم ذوق الجمهور الحالى خصوصاً من الشباب، وأضاف: أنا سعيد بمجال التصميم أكثر لأنه يجد صدى واسعاً عند الناس مثل ما حدث فى مهرجان الطبول، ويعرفهم بقضيتنا وبتراثنا، وبالتالى لن تموت فلسطين».
5) "عبدالكريم" يحكى التاريخ على قماش "الحطة": يوماً ما سنعود
سُمى على اسم جده «عبدالكريم»، كى لا ينسى أصله الفلسطينى.. كأنه ختم غير مرئى على ثنايا روحه يُذكره دوماً بالقضية الفلسطينية وأهمية أن تظل حية فى عقله ووجدانه، فكان مشروعه «كل شىء بالفلسطينى.. أشغال فلسطينية»، الذى يستهدف صنع الأزياء من قماش «الحطة» الفلسطينى الشهير.
25 عاماً هى سنوات عمر «عبدالكريم محمد الوفائى»، لم يرَ فيها فلسطين مطلقاً، فهو من الجيل الثالث للفلسطينيين الذين نزحوا خارج بلادهم عقب النكبة، لكنه حفظ تاريخها، ورسم خارطة شوارعها ومبانيها وآثارها من حكايات عائلته: «جدى عبدالكريم من يافا، ترك فلسطين بعد الاجتياح الإسرائيلى، كان صغيراً لا يتجاوز عمره 14 عاماً، وتنقّل بين الأردن وليبيا والكويت، ثم استقر فى مصر، وقد نقل ذكرياته كلها لأبى الذى كان يسجل لنا أغانى التراث لنحفظها». عقب تخرّجه من أحد معاهد علوم الكمبيوتر الخاصة، افتتح «عبدالكريم» مشروعه، واختار الحلى والاكسسوارات الصغيرة المحفورة على شكل المدن الفلسطينية، كبداية صغيرة، ثم تحول تدريجياً إلى صنع الأزياء من قماش «الحطة» المستخدم فى صنع «الكوفيات والشيلان» الفلسطينية».
لا أستهدف الربح من مشروعى.. ووالدى كان يسجل لنا أغانى تراثنا لنحفظها
لا يفكر «عبدالكريم» فى الربح كثيراً، فهدفه الأساسى هو تأكيد أن الهوية الفلسطينية لن تموت، حتى لو كانت الوسيلة قطعة قماش «مقلمة»، أما هدفه الثانى فهو «إعادة» لم شمل الفلسطينيين الذين يعيشون فى مصر بشكل مختلف حتى لا تنسى الأجيال الجديدة تراثهم وتاريخهم: «رغم أن سعر المتر من قماش الحطة يتجاوز الـ100 جنيه، فإن مكسبى فى أى قطعة أصنعها لا يتجاوز الـ10 جنيهات.