هذا عنوان لكتاب صغير الحجم فى غاية الأهمية، ألفه الشيخ الراحل الدكتور «محمد سعيد رمضان البوطى»، ويذكر الكاتب الكبير الدكتور «ناجح إبراهيم» أنه تأثر جداً بهذا الكتاب، وكان هو السر فى تحولاته ومراجعاته الفكرية.
وفكرة الكتاب تتلخص فى أن الطاعات الظاهرة لا ثمرة لها إذا سيطرت على قلب صاحبها نوازع الكبر والرياء والعجب بالنفس والعصبية للعائلة أو للجماعة، وإذا لم يكن للقلب نصيب فإن ازدواجاً خطيراً يقوم فى كيان المسلم، بل وغير المسلم، وتنشطر شخصيته بين سلوك ظاهر التدين ونفس هائجة مستغرقة فى المعاصى الخفية، وقصارى ما يفعله هذا الشخص أن يلتقط من مظاهر السلوك الإسلامى ما يجر له مغنماً، مثل أنه شجاع ويقول الحق ومتحمس للدين.. إلخ!
ومن نتائج هذا الخطر أن العمل الإسلامى ينقلب إلى تخطيطات شكلية وأمور حركية، تستأثر بالسطح الأعلى، ولا تغوص إلى ما وراء ذلك، (الإخوان والسلفيون نموذجاً)، لأن سلطان الإسلام ابتعد عن قلبه، وتمكن من مظهره فقط، فيتعلق القلب بحب الانتصار للمذهب الحركى القائم على التنظيرات والتنظيمات المجرّدة من أعمال القلوب، وأصحاب هذه القلوب بين الناس مسلمون متدينون متحمسون للإسلام وتطبيق الشريعة، وهى أمنية فى ظاهرها دينية، لكنها دنيوية، لأن قلوبهم ونفوسهم امتلأت تعلقاً بنصرة الإسلام بالأفكار والتنظيمات والتخطيطات المجردة فقط.
ومن علامة تمكن هذا الخطر من القلب أن أحدنا قد يستشيط غضبا -فى الظاهر- لمنكر ارتكب أمامه، لما انهدر من كرامته، لأنه متدين، ولو كشفتَ عن خبيئة نفسه لرأيته إنما استشاط غضباً لما أصابه هو من خدش لحرمة شخصه، والدليل أنه لو لم يكن فى مظهر دينى معروف، ولم يحس به أحد من أرباب المنكر لمر على المنكر غير عابئ ولا مهتم، أرأيت شخصاً يستشيط أمام الناس غضبا وتأخذه ثورة وحماس، ثم هو إذا انفرد بنفسه يكون أحرص الناس على التلذّذ بهذا المنظر؟!!
والإسلام قائم أولاً على تحقيق معنى العبودية لله فى النفس، وهو المنطلق الذى يسبق الحماس والتخطيط والتنظيم والتجميع والتمكين، بل الأعجب أنهم ربما يهونون بل ويسخرون من الذين يعتنون بأمر إصلاح القلوب، وتنقيتها من العجب والكبر والاستعلاء بالإيمان، وليس معنى ذلك أن الإسلام لا يقوم على التخطيط والنشاط الحركى، بل المقصود أن إصلاح القلب وانتزاع أهواء الدنيا منه أساس جوهرى يسبق كل شىء.
ولذلك جاء النص الحكيم: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَه)، وظاهر الإثم معروف، أما باطنه فهو -كما يقول المفسرون- ما ينويه الإنسان ويقصده بقلبه من المخالفات التى تحيك فى صدرك، وتخشى أن يطّلع عليها الناس، وتقنينات السماء تحمى المجتمع من الخطر الظاهر، الذى لا يقع تحت دائرة الإِدراكات المرئية، ولا يكون من منابع النفس البشرية التى تصدر عنها عوامل النزوع، ومعروف أن التقنينات البشرية أو خوف الفضيحة قد تحمينا من ظاهر الإِثم، وتبقى الخطورة فى «باطن الإثم»، الذى لا يعلمه إلا الله الرقيب على المواجيد والسرائر، لذلك فباطن الإِثم هو أعنف أنواع الإِثم.
أعود للدكتور «البوطى» الذى يذكر أن من نتائج خطر «باطن الإثم» العصبية الجاهلية للعائلة أو الجماعة، فيجعل الشخص ولاءه قاصراً على الجهة التى ينتمى إليها، ويتحول التقدير من (المبدأ) إلى (الشخص والجماعة والكيان)، فيأخذ من واقع جماعته المقياس فى تقويم الأشخاص، فيربط الحق بالشخص أو الجماعة.
إذاً فإن «باطن الإثم» هو الخطر الأكبر الذى يواجه المتدينين والعاملين فى حقل الدعوة والناس عامة، وإذا تخلى الإنسان عن باطن الإثم، فسيتخلى حتماً عن ظاهره، أما التخلى عن ظاهره فلا يضمن التخلى عن باطنه!! والهادى والستار هو الله.