أمريكا انسحبت من الاتفاق النووى مايو 2018.. وطالبت بإعادة التفاوض على اتفاق جديد، يسمح برقابة أشد صرامة، على منشآت إيران النووية والعسكرية، يمنع تطوير الصواريخ الباليستية، ويقوض دورها الإقليمى فى العراق، سوريا، لبنان، اليمن، وغزة.. طبقت الحزمة الأولى من الحظر الاقتصادى فى أغسطس، اقتصرت على القطاع المالى والبنوك، وألغت صفقات تجارية أبرزها بوينج الأمريكية وإيرباص الفرنسية.. الحزمة الثانية بدأت نوفمبر، وامتدت لقطاعات الطاقة والتمويل والنقل البحرى، النفط وحده يشكل «80%» من عائدات إيران، لكن استثناء ثمانى دول من الحظر أضعفه.. مر عام على الانسحاب دون تغيير، فبدأ «ترامب» التصعيد؛ صنَّف الحرس الثورى «منظمة إرهابية».. ألغى الاستثناءات، وتبنى سياسة عقوبات تستهدف «صفر صادرات نفطية»، ونسق مع دول الخليج لزيادة الإنتاج، تجنباً لارتفاع الأسعار، ووسع نطاق الحظر ليشمل الحديد والصلب والألومنيوم والنحاس، ثانى أكبر الصادرات «10%»، ولوح بضم السجاد والفستق، ليصبح شاملاً لاقتصاد إيران، حتى يشلّ تعاملاتها الاقتصادية مع الخارج، ويمنع أى دخل بالعملة الصعبة.
رد الفعل الإيرانى على التصعيد الأمريكى أخطأ بالجنوح لمزيدٍ من التصعيد.. «خامنئى» عزل محمد على جعفرى، قائد الحرس الثورى، أبريل 2019، وعين نائبه حسين سلامى، أشد صقور الحرس شراسة، الذى هدد بتدمير إسرائيل، وإزالتها من الخريطة، ولوح لأوروبا بالمنظومة الصاروخية.. ثم عين نواباً جدداً، وقيادات لجهاز مخابراته، ينتمون للصقور أيضاً.. صور الأقمار الصناعية رصدت تركيب صواريخ مجنحة على قوارب الحرس الصغيرة، مما يعرض الأسطول الأمريكى وحركة الملاحة التجارية بالخليج لمخاطر جمة.. وقاعدة التاجى، شمال بغداد، تعرضت للقصف مطلع مايو، أثناء وجود قوات أمريكية بها.. المخابرات الأمريكية تلقت من نظيرتها الإسرائيلية تقريراً يتعلق بتخطيط إيران لهجمات صاروخية، تنفذها الميليشيات الشيعية، ضد قواتها بالعراق «5000 جندى»، وضد السعودية والإمارات، وبأن منصات الصواريخ تم نصبها بمحيط بحيرة الرزازة، غربى العراق، موجهة لإسرائيل.. مايك بومبيو قطع زيارته الأوروبية 8 مايو، وألغى موعداً مع «ميركل»، وتوجه من فنلندا لبغداد، ليلتقى رئيس الوزراء، ويحمله المسئولية، ويهدد بتدخل مباشر!!.
«روحانى» هدد: «ما لم تتم تسوية الأزمة خلال 60 يوماً، فستعود بلاده لتخصيب اليورانيوم، دون التزام بقيود الاتفاق النووى».. والحرس الثورى هدد بإغلاق مضيق هرمز، حال منع إيران من استخدامه لتصدير بترولها، وتم ترجمة التهديد بهجوم غامض على ناقلتى نفط سعوديتين قبالة ساحل الإمارات، وأربع سفن تجارية تابعة للإمارات قرب الفجيرة، ووجه الحوثيون سرب 7 طائرات مسيرة، دمرت محطتى ضخ أنابيب أرامكو، من المنطقة الشرقية لميناء ينبع على البحر الأحمر، تأكيداً لقدرة إيران على استهداف الطرق البديلة، ومنع وصول أى كميات إضافية للأسواق.. تصعيد بالغ الخطورة، لكن تبعات الحظر الشامل على الاقتصاد الإيرانى أكثر خطورة، خاصة أنه يمر أساساً بأزمة طاحنة؛ قيمة الريال انخفضت مقابل الدولار 60% خلال 2018، ومعدلات التضخم قد تصل لـ50%، والركود الاقتصادى أضر بأوضاع تجار طهران، فشملتهم الاحتجاجات، رغم أنهم المؤيدون التقليديون للنظام.. إيران رابع أكبر منتج للنفط داخل «أوبك» بـ3 ملايين برميل/يوم 2018، تراجع إنتاجها لأقل من 500.000 مايو الجارى.. نجاح إجراءات الحظر الشامل تعنى حرمانها من قرابة 50 مليار دولار سنوياً، ما يؤدى للركوع الاقتصادى.
الجنرال البريطانى جيكا، نائب قائد قوات التحالف الدولى بالمنطقة، حمَّل أمريكا مسئولية التصعيد، وقلل من قيمة تهديد الميليشيات المدعومة من إيران، مما يؤكد وجود أهداف أخرى لأمريكا من التصعيد.. الأول: أمريكا خططت للرحيل من الشرق الأوسط، لحصار الصين بالشرق الأقصى، ففوجئت بأنها تجاوزت محاولات الحصار بـ«الحزام والطريق»، وأن إيران حلقة الربط بين طريق الحرير، وقلب أوروبا.. تقويض وجودها العسكرى بسوريا والعراق يكسر هذه الحلقة، ويجهض المشروع الصينى.. الثانى: أمريكا دمرت كل الدول التى هدد قادتها الوجود الإسرائيلى؛ عراق صدام، سوريا الأسد، ليبيا القذافى.. ولم تبق سوى إيران.. حرمانها من السلاح النووى والصواريخ الباليستية هدف استراتيجى غير قابل للتنازل.. الثالث: أمريكا تقدر أن نجاحها فى وقف تصدير النفط الإيرانى قد يدفعها للمخاطرة، وتنفيذ تهديداتها بإغلاق مضيق هرمز، القوة الأمريكية الضخمة هناك، قوة ردع، تمنعها من التفكير فى ذلك.. الرابع: «ترامب» منذ ما قبل وصوله للرئاسة، يطالب دول الخليج بسداد مقابل حمايتها، لكنها ترى أنها قادرة على ذلك، وترفض شبهة الابتزاز.. سيناريو التطورات الأخيرة بعضه تداعيات منطقية للتصعيد، والآخر افتعلته أمريكا باقتدار، فى محاولة لتليين المواقف السياسية لحلفائها، وتمرير خطة إعادة انتشار قواتها، ردعاً لإيران!!.
أمريكا لم ترسل قواتها إلى الخليج لتحارب إيران.. قادة الكونجرس من الحزبين طالبوا «ترامب» بتزويدهم بتفاصيل «المخاطر الإيرانية المتزايدة» المزعومة بالشرق الأوسط، ونانسى بيلوسى، رئيسة مجلس النواب، فضحت تصدى البيت الأبيض لتلك المطالبات، مؤكدة أن بعض أعضاء الكونجرس يرونها خداعاً، وشددت على أن البيت الأبيض لا يملك تفويضاً لشن الحرب، ولا يمكنه استخدام قانون «الإذن باستخدام القوة العسكرية ضد الإرهابيين».. وإيران من جانبها لا يمكنها المخاطرة بالحرب فى ظروفها الاقتصادية الراهنة، وحالة السخط الداخلى الناتجة عنها.. الاتحاد الأوروبى اقترح السيطرة على إيرادات تصديرها للنفط، ببرنامج لـ«النفط مقابل الغذاء والدواء»، لكنها رفضت، واقترحت ضمان تصديرها لـ1.5 مليون برميل/يوم، مقابل استمرار التزامها بالاتفاق النووى 2015.. لكن أمريكا تراهن على أنه إذا قلت الصادرات الإيرانية عن مليون برميل/يوم فإن ذلك يحرك الشارع الإيرانى، ويعجل بإثارة اضطرابات داخلية حادة.
العقوبات الأمريكية مجرد عملية ترويض، إما تعيد إيران لدورها التقليدى كحليف، أو تحافظ على دورها كفزاعة للمنطقة، تتقاسم الأدوار، وتقتسم المكاسب، وإلا ستتعرض بالفعل لدمار سوريا والعراق.. «روحانى» يعتبر هذا العام الأصعب منذ وصول الملالى للحكم 1979، ويحذر من تبعات أى قرارات متعجلة.. التصعيد أثار ارتباكاً داخل مراكز صنع القرارات، حشمت الله فلاحت، رئيس مجلس الأمن القومى، انتقد إدارة التوتر مع أمريكا، ودعا لمفاوضات ثنائية، لكن المتحدث باسم المجلس أكد أن ذلك «رأى شخصى».. هى بداية للرضوخ، والانقسامات، وربما لصراعات داخلية، مرشحة للتفاقم.. روسيا كعادتها، تخلت عن حليفتها إيران، و«حذرتها من المراهنة على تحالفهما!!، لأنها لا قبل لها بمواجهة الفعل الأمريكى»، وهو موقف منطقى يستهدف إبعاد طهران عن المشاركة فى الهيمنة على سوريا.. ترى، هل بدأت صراعات الذئاب؟!.