كل علاقات التعاون مع الكيانات الدولية العملاقة، التى شكلت تحولاً نوعياً فى ثقل مصر، ومستقبلها الاقتصادى، تم تأسيسها خلال لقاءات مباشرة بين الرئيس السيسى ورؤساء هذه الكيانات، حدث هذا مع كلاوديو ديسكالزى، رئيس شركة «إينى» الإيطالية، بعدها تم اكتشاف حقل «ظهر» العملاق.. كما حدث مع جوزيف كيزر، رئيس شركة «سيمنز» الألمانية، بعدها تم تنفيذ ثلاث محطات توليد كهرباء، حققت نقلة نوعية لتحقيق فائض ضخم فى الإنتاج يسمح بالتصدير.. وأخيراً مع ديفيد ستوفر، رئيس شركة «نوبل إنيرجى» الأمريكية، الذى استقبله الرئيس 20 مايو الجارى.. خلف ذلك تكمن رؤية استراتيجية للدولة، تستهدف تبوؤ وضع دولى متميز، كمركز للطاقة الغازية والكهربائية بالمنطقة.
«نوبل» قد تنضم لعمالقة التنقيب بالمنطقة الاقتصادية الحرة لمصر شرق المتوسط، وربما تشارك فى تنفيذ خط أنابيب الغاز بين حقل «أفروديت» القبرصى ومعمل إسالة الغاز فى «إدكو».. اختيارها يعكس حكمة بالغة، لا لكفاءتها الفنية فحسب، وإنما لأنها شريكة «شل» الأمريكية و«ديليك» الإسرائيلية فى حقل «أفروديت».. وشريكة «ديليك» فى حقلى «تمار» و«ليفياثان» الإسرائيليين، وتعاقدت بمشاركة «ديليك» على بيع الغاز لشركة «دولفينوس» المصرية.. وهما و«غاز الشرق» المصرية استحوذوا على 39% من أسهم «غاز شرق المتوسط»، التى تمتلك خط أنابيب «عسقلان/العريش»، الذى سيستخدم لضخ الغاز الإسرائيلى.. «غاز الشرق» استحوذت على 9% أخرى فى صفقة منفصلة.. و«نوبل» اتفقت على التشغيل مقابل 10%، ليرتفع الاستحواذ لـ58%، مما يسمح بإسقاط الغرامات المفروضة بموجب الأحكام الدولية، على شركات الإسالة المصرية، نتيجة عدم الوفاء بالتزاماتها التصديرية، بسبب التفجيرات المتعاقبة بخط الغاز إبان حكم الإخوان.
احتمال إسناد تنفيذ عملية مد خط نقل الغاز البحرى بين قبرص ومصر لشركة «نوبل»، يربط المصالح الاقتصادية الأمريكية بالمنطقة بصورة استراتيجية، من خلال شراكة «إكسون موبيل» فى حقل «جلافكوس» القبرصى العملاق، و«نوبل» فى معظم امتيازات التنقيب والاستخراج والنقل التابعة لإسرائيل وقبرص ومصر، مما يفرض على أمريكا الانحياز لهم، لردع التهديدات التركية، خاصة مع التباعد الذى تتعرض له العلاقات التركية الأمريكية نتيجة لصفقة S-400، والعقوبات التى ترتبت عليها.
ومن نفس منطلق التوجهات الاستراتيجية، لدفع الدولة نحو المركز الدولى للطاقة، وقعت مصر اتفاقاً مع شركة «يوروأفريكا إنتركونكتور» القبرصية 23 مايو، لمد كابلات بطول 310 كيلومترات على عمق يصل لـ3000 متر تحت مياه المتوسط، تبدأ من غرب دمياط، لربط شبكة الكهرباء المصرية الوطنية مع نظام الكهرباء الأوروبى عبر قبرص وجزيرة كريت اليونانية، لتصدير فائض الطاقة الكهربائية من مصر إلى أوروبا، تبلغ طاقته القصوى 2000 ميجاوات، وتكلفته مليارى يورو، ويستغرق تنفيذه 36 شهراً.
كل ذلك يتم فى ظل التحرشات التركية؛ سفينتا التنقيب «فاتح» و«برباروس» يتمركزان على بعد 60 كم جنوب غرب قبرص.. مناورة «ذئب البحر 2019»، بدأت 13 مايو الجارى، امتدت فى كل من البحر الأسود وبحر إيجة والبحر الأبيض المتوسط، تعتبر المناورة البحرية الأكبر فى تاريخ تركيا.. وهى امتداد لمناورة «الوطن الأزرق»، التى نظمت خلال فبراير ومارس الماضيين، والتى حشدت فيها الترسانة البحرية والجوية لتركيا.. «أنقرة» تستهدف التأكيد على وجودها بالمنطقة، كما تحرص على إبقاء قواتها فى حالة حشد، أثناء عمليات التنقيب التى تمتد حتى سبتمبر المقبل، تحسباً للطوارئ.. قبرص وإسرائيل ردتا على المناورات التركية، بمناورات مشتركة استمرت حتى 29 مايو، كجزء من برنامج التعاون العسكرى الثنائى السنوى بين البلدين، فى تحدٍ صريح لمناورات «ذئب البحر».. والقوات البحرية المصرية نفذت مع البحرية الفرنسية «الفرقاطة SURCOUF» تدريباً مشتركاً بمنطقة عمل الأسطول الشمالى فى البحر المتوسط.
التهديدات التركية لم تقتصر على التحرش فى البحر، بل امتدت إلى تفعيل صريح لدعمها لحكومة السراج والميليشيات التابعة لها.. الإخوانى خالد المشرى، رئيس مجلس الدولة، وفتحى باشاغا، وزير الداخلية، زارا «أنقرة» بداية مايو، بصحبة عدد من القيادات العسكرية، وتفقدوا معرضاً للأسلحة، وقدموا احتياجاتهم.. بعدها تدفقت المدرعات، وطائرات الدرونز المسيرة والأسلحة على طرابلس ومصراتة؛ 40 مدرعة ناقلة للجنود مضادة للألغام طراز كيربى، من صنع «بى إم سى أوتوموتيف» التركية، التى يمتلك صندوق الاستثمار القطرى 50% من أسهمها، وكمية من الصواريخ المضادة للدبابات، بالإضافة إلى بنادق قنص ورشاشات هجومية، وكميات من الذخائر والمتفجرات وقطع الغيار.. كل مصادر الأنباء نقلت عملية تسلم الأسلحة بالموانئ، لأن المتحدث باسم حكومة طرابلس أكد التواصل مع تركيا لطلب الدعم اللازم لمواجهة الجيش، ومحمد الشامى، عضو المكتب الإعلامى لميليشيات المنطقة الوسطى، التابعة للسراج، أكد أن «الدعم التركى تم عبر اتفاقات رسمية»، مدعياً أن «المدرعات لا يشملها قانون حظر الأسلحة»!!، وهناك تسريبات قوية تفيد بدراسة «السراج» منح تركيا حق إقامة قاعدة عسكرية بطرابلس، لتمكينها من الدعم المباشر للميليشيات بطريقة مشروعة، فى استنساخ لتجربة قطر، حيث حال التدخل التركى المباشر دون سقوط النظام.. إيطاليا تحفظت بسبب وجود قواتها بمصراتة، وعدم اتساق الوجود العسكرى التركى مع التجاذبات السياسية الراهنة بين «أنقرة» ودول الاتحاد الأوروبى.. بعثة الأمم المتحدة تلتزم الصمت رغم انتهاك تركيا وقطر الصريح لحظر السلاح.. فهل ستلتزم نفس الموقف لو تم لحساب الجيش الوطنى؟!.
توزيع الأسلحة والمدرعات التركية على الفصائل والميليشيات سبب انقسامات عديدة.. عناصر «فرسان جنزور» طالبوا بالانسحاب من المعركة، وكتيبة «ثوار طرابلس» أغلقت بوابات ميناء طرابلس بالحاويات، احتجاجاً على استحواذ ميليشيات مصراتة على معظم الأسلحة، والجيش الوطنى فرض حظراً بحرياً على الموانئ الواقعة غرب ليبيا، منذ 19 مايو، لمنع وصول مزيد من الأسلحة، وقطع الإمدادات العسكرية لميليشيات الوفاق.
الجيش الوطنى تمكن من تدمير قرابة نصف المدرعات الجديدة، وأسقط طائرة مسيرة فوق قاعدة الجفرة.. لكن الدعم التركى القطرى يستهدف تحويل المعركة إلى حرب طويلة، يعانى فيها المدنيون أكثر من المحاربين.. «حفتر» يرتب لزيارة موسكو وواشنطن للقاء «بوتين» و«ترامب».. الطرفان على قناعة بأن الحرب بين طرفين، أحدهما وطنى يسعى لاستعادة مؤسسات الدولة الليبية، وفرض الأمن والاستقرار، والآخر الميليشيات والتنظيمات الإرهابية، التى تحرص على استمرار الفوضى.. زيارات حاسمة، يتم خلالها إجراء مراجعة نهائية للمواقف، قبل إعطاء الضوء الأخضر للجيش الوطنى، لحسم المعركة.. وهو ما نأمل أن يتم سريعاً، حتى يتوقف نزيف الدماء.