بعد الغزو الصينى.. «سابكو المعادن» ينعون مهنة «هدّ الحيل»: «فى انتظار زبون.. أكل عيشنا ومانعرفش غيرها»
«مصطفى» داخل ورشة والده لسبك المعادن
فى ورشتهما التى ورثاها عن الأب والأعمام، والتى لا يزيد طولها وعرضها على 4 أمتار لكل منهما، يقف مصطفى وسمير أحمد على، يتصببان عرقاً من شدة حرارة العمل على سبك المعادن، فعملية السبك تحتاج مئات الدرجات لأيسر معدن، ولأنهما خرجا للحياة فوجداها مهنة العائلة فعزفا عن تعلم غيرها حتى صارت «أكل عيشهم» التى تنهار شيئاً فشيئاً، على حد وصفهما، بعد أن غزت السوق قطعٌ مستوردة، جعلت الإقبال محدوداً على حرفة يدوية تراثية اشتهر بها الأجداد.
«الوطن» تجولت داخل الورشة الواقعة فى بداية حى الناصرية بالسيدة زينب، التى تستقبلك بدرجات حرارة تزيد على درجة حرارة الشارع بعشرات الدرجات، وقد وقف الأخَوان، يقتسمان الأدوار فيما بينهما، فيقف «مصطفى» على طاولة أو «البانك» كما يحلو له تسميته، وقد استعان بالرمال، يقوم بطبع ونحت شكل يحاكى حجم القطعة المراد سبكها فى قالب مملوء بالرمل مكون من جزءين، بحيث يكون فى القالب العلوى تجويف الجزء العلوى للقطعة وكذلك الحال للتجويف السفلى فى القالب السفلى، ليقوم بتركيب القالبين فوق بعضهما صانعاً فتحة علوية تسمى «المصب».
"مصطفى": كنا زمان بنعمل كشافات الإنارة فى الشوارع والنهارده بنشتغل على قواعد المرايات وقطع الديكور
وبينما يُنهى «مصطفى» تشكيل الفراغات فى القوالب يكون «سمير» منهمكاً فى أقصى الجانب الأيمن من الورشة ممسكاً بـ«الكبشة» وهى مثل ملعقة كبيرة صنعت من مواد تتحمل مئات درجات الحرارة، ويقوم بإدخالها فى المَسبَك وهو فرن تم تنفيذه يدوياً بعمل حفرة فى عمق الأرض بطريقة تمكنها من تكثيف الحرارة وتركيزها على المعدن المراد صهره. يختبر «مصطفى» درجة انصهار ونقاء معدنه باستمرار حتى يصبح سائلاً كالماء أو على أدق وصف كسوائل البراكين، فيقوم بصبه فى فتحات القوالب باستخدام «الكبشة» حتى تمتلئ «الفورمة أو الفراغات» التى نحتها شقيقه بداخل قالب الرمل، ثم بعد بضع ثوانٍ يتحول السائل المنصهر الأصفر فى فوهة الفورمة إلى مادة صلبة بلون فضى، يكون بذلك قد أنهى أولاد «أحمد على» قطعة غيار من الألومنيوم. ويحكى «مصطفى» الذى استمر تعلمه للحرفة 3 سنوات عندما كان عمره 12 عاماً، أنهما يستخدمان قطع الخردة الألومنيوم سابقة الاستخدام، فيقومان بإعادة تدويرها «بنروح نشترى مخلفات الخردة بتاعت العربيات زى قاعدة موتور مثلاً وصهرها فى الفرن هنا فى الورشة ولما تبقى سائل أكون أنا عملت فورمة الحاجة اللى عايزين نصنعها فى الرمل زى قاعدة مراية عربية أو وش فانوس عربية وساعات بنعمل قطع تحف للديكور، بس كله بالطلب»، وتابع حديثه عن قلة الإقبال على حرفته «مابقاش الشغل زى الأول.. كنا زمان بنعمل كشافات الإنارة فى الشوارع إنما مثلاً النهارده عملنا قاعدة مرايتين و4 قطع ديكور وخلصنا قبل العصر بعد ما كنا بنشتغل من 8 الصبح لحد 12 بالليل.. شغلتنا بتنتهى كل يوم والتانى»، ليرجع السبب فى ذلك إلى المنتجات المستوردة من الصين التى غزت الأسواق فلم تدع مجالاً للحرف اليدوية.
وبحسب «مصطفى» فإن والده ترك له صيتاً جعل زميلاً قديماً لوالده يعرض عليه العمل فى مصنعه الذى يقوم بسبك المعادن لتشكيل قطع كبيرة للثلاجات وقطع غيار لأوتوبيسات السياحة، «لو دخلت أى محل بتاع خردة كل الناس يعرفوا ولاد أحمد على واسمنا مسمع وزميل والدى عارف إن أنا وأخويا عارفين كل حاجة فى المهنة وعرض علينا نشتغل بس مصنعه فى السادات وإحنا مانقدرش نبعد عن هنا وعن ورشتنا».
«أكل العيش» هو ما يجعل الأخوين مستمرَين فى العمل على تلك المهنة التى لم يعرفا غيرها، جالسان فى ورشتهما فى انتظار أن يهل عليهما «زبون» يطلب صب قطعة لم يعثر عليها فى السوق، وعندما انتشرت ماكينات البلاستيك فى السوق كان من الممكن أن تشكل فرصة لتغيير عملهما، لكنها بحسب قول مصطفى «مش مهنتنا رغم إن ناس كتير زمايلنا اشتغلوها وكمان عايزة فلوس كتير نشترى المكنة»، ولذلك آثرا المضى قدماً فى مهنة بحسب وصفه «تهد الحيل وبتنقرض» و«أى غلطة فيها ممكن تضيعنا لو الفرن هب مثلاً»، ولتلك الأسباب أيضاً عمل على إلحاق ابنه بتعليم فنى قد يمكنه من المضى قدماً فى صنعة أخرى، غير آبه بما سيؤول إليه حال الورشة والصنعة بصفة عامة.