منذ اندلاع ما عُرف بـ«ثورات الربيع العربى»، كانت سياسات الولايات المتحدة الأمريكية ومواقفها حيال الدول التى شهدت تلك التغيرات والانتفاضات محل بحث وتحليل دقيقين.
وقد لاحظت فى هذا الصدد أن هناك عدداً من الأفكار المتشابهة لدى قطاع من الناشطين والثائرين والمثقفين فى دول التغيير العربى عن سلوك الولايات المتحدة ومواقفها حيال المنطقة، وهى أفكار فى حاجة إلى مراجعة وفحص متأنٍّ.
أولاً: يظن كثيرون من أعضاء تيار ما يسمى بـ«الإسلام السياسى» وبعض أطياف الجمهور، خصوصاً الأقل حظاً فى استحقاقات التنمية البشرية، أن الولايات المتحدة تناهض هذا التيار، وتعمل على عرقلة وصوله إلى الحكم فى الدول العربية، وتتآمر ضده، لأنها «تخاف من أن يحكم الإسلام، فينهض المسلمون، ويطيحون بها من على قمة النظام العالمى».
والواقع أن واشنطن لم تظهر أى معارضة من أى نوع لأى من فصائل «الإسلام السياسى» التى استفادت من التغييرات السياسية الحادة فى بلدان التغيير العربية، بل هى أظهرت قدراً كبيراً من الدعم والمساندة والتعاون مع تلك الفصائل خصوصاً حينما وصل بعضها إلى الحكم. لقد ساعدت واشنطن «الإخوان المسلمين» فى مصر وتونس مساعدة واضحة، وأظهرت دعماً كبيراً لهم، بل وضغطت على القوات المسلحة المصرية من أجل تسهيل نقل السلطة إلى «الإخوان».
وفى اليمن وسوريا دعمت الولايات المتحدة الإسلاميين بوضوح، وهى إن كانت أدانت وشجبت علناً أعمال «القاعدة» أو «جبهة النصرة» أو «داعش» فى كلا البلدين، فإنها نسقت ودعمت وتفاهمت مع قوى إسلامية أخرى.
ثانياً: يسود انطباع بين أطراف عديدة فى دول التغيير العربى مفاده أن واشنطن تناصر الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأنها تتدخل فى هذا البلد أو ذاك دعماً لتلك المبادئ وصيانة لها. إن هذا الانطباع خاطئ بكل تأكيد، وإلا لناصرت واشنطن تلك المبادئ فى بعض دول المنطقة التى تتجاهلها تماماً وترتبط بشراكات وتحالفات استراتيجية معها لأنها تحقق لها مصالح مهمة.
إن واشنطن انتفضت ضد ما قالت إنه «استخدام بشار الأسد الأسلحة الكيماوية ضد شعبه»، لكنها لم تفعل الأمر نفسه مثلاً مع صدام حسين حين استخدم الأسلحة نفسها ضد شعبه فى المناطق الكردية. بل إن واشنطن نفسها سبق أن استخدمت القنبلة الذرية ضد اليابانيين، كما اتهمت باستخدام أسلحة محرمة فى العراق وأفغانستان.
ثالثاً: يتصور كثير من الناشطين والسياسيين العرب أن واشنطن تمارس السياسة بفهم واحتراف ودقة وكفاءة منقطعة النظير، وأنه من المستحيل أن تخفق سياسة من السياسات الأمريكية أو أن ترتكب واشنطن الأخطاء الكبرى. إن هذا الأمر ليس سوى خطأ كبير فى حد ذاته. وتزيد خطورة هذا التصور لأن أصحابه يعتقدون أن كل ما يقع فى إطار الدول العربية الحيوى إنما يعكس «تخطيطاً أمريكياً محكماً»، وبالتالى فإن قوة أمريكا تتضخم فى رؤوس هؤلاء، ومهاراتها تتضاعف، وهزيمة إرادتها تصبح مستحيلة.
إن واشنطن ترتكب الأخطاء بالطبع. وسياساتها تخفق فى أحيان كثيرة. وكثيراً ما تفشل فى تحقيق إرادتها أمام دول أو تجمعات أو قوى سياسية صغيرة. لقد أخفقت واشنطن فى إيران منذ اندلاع ثورتها فى 1979، كما أخفقت فى العراق وأفغانستان، وكانت قد فشلت فشلاً ذريعاً فى فيتنام حيث تلقت هزيمة مذلة هناك. وها هى الآن تخفق فى مصر إخفاقاً مريراً بعدما راهنت على «الإخوان المسلمين» واستثمرت فيهم كثيراً، قبل أن يضيع استثمارها هباء.
رابعاً: يسود انطباع بين محللين وسياسيين عرب كثيرين بأن الإدارة الأمريكية «كل متماسك»، وأنها تعمل بتنسيق كامل بين كل أعضائها، ولا يمكن أن ينشأ تضارب فى أى سياسة من السياسات التى تعتمدها، أو أن يقع خلاف بين رموز الإدارة حول موقف أو سياسة.
إن هذا الانطباع خاطئ بكل تأكيد. وعلى من يعتقد فيه أن يقرأ كل المذكرات التى كتبها رجال عملوا فى الإدارات الأمريكية المتعاقبة، حيث سيجد أن كثيراً من السياسات الداخلية والخارجية كانت محل جدل أو خلاف أو صراع بين قوى مختلفة فى تلك الإدارات.
هناك عدد كبير من الأجهزة والوكالات والوزارات والمواقع الحيوية فى تلك الدولة الاتحادية، ولكل منها توجه ونسق عمل وسياسة وأهداف ورؤى، وفى بعض الأحيان تتصادم تلك الرؤى، أو تنطلق السياسات الناجمة عنها من دون التنسيق اللازم.
ستظل الولايات المتحدة تلعب دوراً مؤثراً، وربما يكون محورياً، فى كل ما يحدث فى بلدان «التغيير العربى» من تطورات مهمة، لفترة ليست قصيرة. وستزيد قدرة واشنطن على التأثير فى مجرى الأحداث والسياسات فى تلك البلدان طردياً كلما زادت التحديات وتفاقمت المشكلات وتراجعت قدرة الإطار السياسى الوطنى على اتخاذ القرارات السليمة وتنفيذها فى الوقت المناسب.
أفضل ما يمكن فعله فى هذا الصدد سيكون تعزيز الإرادة الوطنية فى الدول العربية من جهة، وتقليل الاعتماد على الدعم الخارجى من القوى السياسية والثورية من جهة أخرى، وهو الأمر الذى سيقلل إلى أقصى درجة من التأثيرات السلبية للسلوك الأمريكى إزاء بلدان التغيير العربى.
إن تطوير العلاقات الدولية لدول التغيير العربى وتعزيز التفاهم مع قوى دولية أخرى نافذة فى العالم يمكن أن يحد من الآثار السلبية للسلوك الأمريكى المثير للجدل إزاء المنطقة. لكن أهم ما يجب اتخاذه من خطوات فى هذا الصدد يكمن فى ضرورة تصحيح المفاهيم والقناعات الراسخة الخاطئة بخصوص الولايات المتحدة، وهى عملية تستلزم إزالة أربعة أخطاء شائعة من العقل السياسى العربى على الأقل.