لقد جرت مياه جديدة فى نهر العلاقات بين دول المقاطعة الأربع وبين قطر خلال الأسابيع الأخيرة، التى تزامنت مع حلول الذكرى الثانية لقطع العلاقات مع الدوحة، بهدف حضها على تقويم سلوكها السياسى، الذى بات واضحاً لكثيرين أنه يهدف إلى تقويض استقرار المنطقة.
فبالإضافة إلى حضور قطر قمم مكة التى انعقدت فى نهاية الشهر الماضى، برزت تصريحات كويتية جديدة تتحدث عن استمرار الدبلوماسية الكويتية فى محاولاتها لـ«رأب الصدع ولم الشمل الخليجى»، عبر تقريب وجهات النظر بين دول المقاطعة الأربع وقطر، وحسم نقاط الخلاف.
إن استمرار الأزمة بين دول المقاطعة الأربع (السعودية، والإمارات، والبحرين، ومصر) من جانب، وقطر من جانب آخر، من دون حسم واضح أو أفق للحل؛ دفع البعض إلى الاعتقاد بأن الدوحة نجت من الاستهداف، وحققت انتصاراً، عبر الصمود، واستهلاك الوقت، واللعب بورقة الوسطاء والحلفاء.
لن يمكننا أن نحدد ما إذا كانت الحملة على قطر نجحت أم أخفقت، إلا إذا عرفنا أهدافها، وبالتالى فعلينا أن نعود إلى الوراء قليلاً، ونتوقع تلك الأهداف، قبل أن نحكم على فشل تلك السياسة أو نجاحها.
فإذا كان ما فعلته دول المقاطعة الأربع حيال قطر بمنزلة معركة خاضتها تلك الدول دفاعاً عن مصالحها، فما «تعريف النصر» فى تلك المعركة؟ وهل يمكن تعريفه باعتباره النجاح فى الإطاحة بالحكم القطرى وتبديله بحكم أكثر انسجاماً ومطاوعة، أم أن هناك تعريفات أخرى أقل طموحاً من ذلك بكثير؟
إذا كانت دول المقاطعة أرادت فقط الإطاحة بحكم الأمير تميم، واعتبرت ذلك هدفاً لا رجوع عنه، فإنها الآن فى موقف صعب، لأن هذا الهدف لم يتحقق، ويبدو أنه صعب التحقق.
أما إذا كانت تريد إدامة الضغوط على قطر، وتكثيفها، من أجل التأثير فى سياساتها، لكى تصبح أقل عداء لسياسات دول المقاطعة، وأن تؤثر فى استقرار الأوضاع الداخلية فى قطر، بحيث تصبح حكومتها أقل ميلاً للتفكير والعمل على التأثير فى مصالح الدول الإقليمية، تكون دول المقاطعة قد نجحت بشكل ملموس وقابل للقياس.
فى الأسابيع القليلة التى تلت تدشين الحملة، أقدمت الدوحة على عدد من الخطوات التى تثبت بشكل غير مباشر تأثرها الواضح بالضغوط، وتجاوبها معها، بالإقدام على تغيرات جوهرية فى سياساتها.
من بين تلك الخطوات توقيع اتفاقية مكافحة الإرهاب مع الولايات المتحدة، وفتح السجلات القطرية أمام الاستخبارات الألمانية لتفتيشها وفحصها، وتقصّى أى علاقات مفترضة للحكومة القطرية بجهات إرهابية على صعيدى التمويل والدعم. ليس هذا فقط، بل إن السلطات القطرية أقدمت على إجراء تعديلات فى القوانين الجنائية، بما يمكنها من «تقييد أكبر للأنشطة الإرهابية»، كما أعلنت قائمة جديدة بالجهات والأفراد المصنفين إرهابيين. لم تكن قطر لتقدم على مثل تلك الخطوات، التى يتقاطع بعضها مع اعتبارات السيادة الوطنية، من دون درجة عالية من الضغوط، ودرجة عالية من القابلية للتجاوب معها، وهو الأمر الذى يبرهن على نجاعة سياسات دول الحصار، وقدرتها على تحقيق تأثير ملموس، فى نطاق الهدف المتعلق بتغيير السلوك القطرى.
لقد دخلت الحملة على قطر مرحلة جديدة، حين أعلنت دول المقاطعة سحب المطالب الـ13 وطرحت المبادئ الستة، وهى مبادئ أكثر تركيزاً ووجاهة وقابلية للتنفيذ، كما أنها تشير بوضوح إلى أن تعريف تلك الدول للنصر يتعلق بـ«إدامة الضغوط على الدوحة، لإجبارها على تغيير سياساتها العدائية، وإرباكها، بحيث تصبح أقل قدرة على إرباك الآخرين، والتأثير فى أمنهم».
بهذا المفهوم يمكن أن تكون الحملة على الدوحة ناجحة، خصوصاً أن قدرتها على تقويض أمن دول المنطقة تراجعت كثيراً منذ أصبحت هى ذاتها هدفاً للتقويض.
ثمة ثلاثة سيناريوهات رئيسة يمكن أن تتطور إليها الأزمة القطرية الراهنة، على النحو التالى:
السيناريو الأول: إطاحة تميم
يفترض هذا السيناريو أن السعودية والإمارات والبحرين ومصر ستواصل ضغوطها على قطر، وستعزز سياسات حصارها وعزلها، وستوسع دائرة الاستهداف، وتضم حلفاء آخرين، بشكل يؤدى إلى انفجار داخلى فى الدوحة، يُمكّن بعض الأجهزة الاستخباراتية وقوى المعارضة من خلع الأمير تميم، وتنصيب أمير آخر من العائلة، يمكنه أن يعيد هيكلة سياسات الدوحة، ويفى بالشروط المطلوبة لاستعادة الأوضاع الطبيعية.
من الواضح أن دول المقاطعة لم ترد هذا السيناريو، ولم تظهر أى دلائل جدية عليه.
السيناريو الثانى: امتثال الدوحة
فى هذا السيناريو ستتوالى المصاعب على الدوحة، وستنجح الدول المتحالفة ضدها فى تصليب سياسات المقاطعة وإحكامها، كما أنها ستضم حلفاء آخرين فى محاولة لتعزيز الضغوط، وستجد الدوحة نفسها غير قادرة على مواصلة العناد والمقاومة، وستفهم أن الدعم الإيرانى والتركى، والوساطة الكويتية، وبعض المساندة الدولية التى تحصل عليها، لا يمكن أن توازن موقفها فى الأزمة. وبناء على ذلك، ستوافق الدوحة على تلبية عدد من الشروط التى تطلبها الدول المتحالفة، ومن أهمها تحجيم العلاقات مع إيران، والحد من دعم «الإخوان» وبعض الجماعات الإرهابية الأخرى، وتغيير سياسات «الجزيرة» التحريرية.
السيناريو الثالث: كسر المقاطعة
سيتحقق هذا السيناريو إذا نجحت الدوحة فى الحصول على مساندة دولية معتبرة، مثل تلك التى حصلت عليها عسكرياً وسياسياً من تركيا وإيران. وستجتهد من خلال استخدام الدبلوماسية المكوكية، والأموال الساخنة، والتنازلات الكبيرة، فى زعزعة التحالف ضدها، وتعزيز موقفها الدولى والإقليمى، والصلابة فى مواجهة الضغوط ومقاومة الحصار عليها، وبالتالى تنجح فى إدامة الأزمة، وتبريدها مع الوقت، دون أن تلبى شروط الدول المتحالفة.
لقد بات واضحاً أن السيناريو الأول مستبعد الحدوث بالنظر إلى عدم ظهور أى دلائل على أن دول المقاطعة أرادته أو تبنته، وهو الأمر الذى ظهر واضحاً فى رفض واستبعاد أى فكرة لحل عسكرى للأزمة من جانبها.
من الضرورى تركيز الجهود لإنجاح السيناريو الثانى، خصوصاً أن بعض التغيرات الإيجابية ظهرت من خلال الالتزام به، ومع مزيد من الضغوط والصبر يمكن أن نشهد تغيرات أكبر فى سلوك قطر، وهو أمر ضرورى لأن القبول بالسيناريو الثالث ستكون له عواقب وخيمة.
لا يجب استعادة قطر وتأهيلها قبل أن تظهر تغيراً واضحاً فى سلوكها المقوض للاستقرار والداعم للإرهاب.