فى 18 مارس 1979، حضر الرئيس السادات الاحتفال الأول بعيد يوم الطبيب، وكان هذا الاحتفال قبل توقيع معاهدة السلام بستة أيام، وكان الرئيس متردداً فى الحضور، وأرسل عدة رسائل عن طريق الأمن القومى، وفكرى مكرم عبيد، أمين الحزب الوطنى، وقد أكدت لهم جميعاً أنه رغم وجود تيار يسارى فى النقابة، قد يكون له موقف من معاهدة السلام، إلا أننا سنُرحب بـ«السادات» ترحيباً قوياً، وحدث فعلاً أن حضر «السادات»، وأعجبه، أو فاجأه قدر الترحيب الذى حظى به من شباب الأطباء، وبعده كلمتى، وكلمة الدكتور إبراهيم بدران وزير الصحة، وقال إنه لم يكن فى برنامجه أن يلقى كلمة، إلا أن حرارة الترحيب فاجأته وأسعدته، لذلك سيلقى كلمة، وفاجأنا بالإنعام بوشاح النيل باسم المرحومين نجيب باشا محفوظ، أستاذ ورائد أمراض النساء، وعلى باشا إبراهيم رائد الجراحة ومنشئ الجمعية الطبية ونقابة الأطباء، وأنعم على النقابة بمليون متر فى مدينة العاشر من رمضان، تُخصص مساكن للأطباء، وأعلن أنه سيأخذ معه نقيب الأطباء لحضور مراسم توقيع المعاهدة فى أمريكا.
السفر إلى أمريكا كان آخر ما أتوقعه، خصوصاً أننى لم أكن من المرحبين بالمعاهدة فى ذلك الوقت، لعله عدم ثقة فى الحكومة الإسرائيلية، وطلبت من مجلس النقابة عدم الحضور، وحاولت أعتذر عن السفر، لكن المجلس أصر على سفرى، وتفاصيل سفرى وحضور توقيع المعاهدة أن الاحتفال تم فى حديقة البيت الأبيض بحفل عشاء مشترك مع الجانب الإسرائيلى والأمريكى، وكنت قد حصلت على قرار من مجلس النقابة قبل سفرى بمنع التطبيع مع الجانب الإسرائيلى فى العمل النقابى الطبى والصحى، حتى ينتهى الحل المجزى العادل للجانب الفلسطينى، وتحقق البرنامج الذى وافق عليه مجلس الجامعة العربية والأمم المتحدة فى إنشاء دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67، عاصمتها القدس، وإيجاد حل شامل وعادل للمهاجرين الفلسطينيين، ونُشر هذا القرار فى «الأهرام» قبل سفرى، وفى ذلك الوقت لم يكن يوجد حظر على مثل هذا النشر، وبناءً على ذلك عدنا إلى القاهرة وطبقنا منع التعامل مع إسرائيل بالسفر أو الاشتراك فى مؤتمرات يحضرها إسرائيلى، أو يحضر مؤتمرات فى مصر، وهددنا كل من يسافر إلى إسرائيل بعقوبات تأديبية، من حسن الحظ أن سارعت نقابة الصحفيين ونقابة المحامين بأخذ موقف يُذكر من تطبيع أعضائهما، ثم تبع ذلك باقى النقابات المهنية والبالغ عددها 23 نقابة تمثل ما يقرب من عشرة ملايين من الأعضاء.
السيد الصحفى الكبير، الذى كان لصيقاً بالرئيس السادات ويتحدث باسمه، أخذ يكتب لنا، ويؤكد له، أننى سبب برود العلاقة مع إسرائيل، وتزايدت أسئلة المراسلين الأجانب حول هذا الموضوع، بأنه رغم توقيع معاهدة السلام وموافقة الشعب عليها إلا أن الزيارات المتبادلة وأوجه التطبيع فى المجالات المختلفة متوقفة، وكانت هناك محاولة لإقناع السادات بأننى السبب فى ذلك أو نقابة الأطباء، وحاول إقناع عدد من كبار الأطباء بالسفر، إلا أنه لم يستجب سوى طبيب كبير فى أمراض المسالك البولية، وعاقبناه بشطب اسمه من المرشحين للتكريم فى عيد الطبيب الثانى فى 18 مارس 1980، إلا أن السيد الصحفى قام بتكريم الطبيب بعد زيارته إلى إسرائيل، ونجح فى الحصول على وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى، وهو الوسام نفسه، الذى كان سيُرشح له لو لم يوقع عليه العقاب.
آسف لهذه المقدمة الطويلة، لكن نصل إلى موضوع المحاورة والنقاش.
كتبت للرئيس السادات عدة مرات أثناء عام 79، نشكره على حضوره الاحتفال الأول بعيد الطبيب، ونطلب حضوره الاحتفال الثانى فى 18 مارس عام 80، وكان الرد دائماً بأنه مشغول، ولا يمكن حضوره، وبأسلوب جاف، ولسبب الإحباط الشديد، لجأت إلى رئيس الديوان اللواء حسن حسنى، وكان يحاول تهدئتى بأن أصبر، لعل الأمور تتغير.
فى 22 فبراير 1980 حضر الاحتفال الأول لعام الصيدلى فى مقر الحزب الوطنى، وحضرت بصفتى رئيس اتحاد المهن الطبية، الذى تعتبر نقابة الصيادلة أحد أعضائه، وعند إنهاء الاحتفال وخروج الرئيس السادات فى المقدمة ومعه كوكبة من كبار السياسيين ومعه سيدة مصر الأولى السيدة المحترمة والفاضلة جيهان السادات، وأنا كنت خلف «السادات» على بُعد عشرين متراً، لمحنى الرئيس ولا أعلم كيف ذلك، إلا أنه التفت خلفه، ونادانى بصوت جهورى:
حمدى، أنت مانع دكاترتك يزوروا إسرائيل ليه؟
أصابنى ذلك بهلع وارتباك، خصوصاً أنه وصل للحجرة الخارجية، والتف حوله المسئولون فى نصف دائرة، ووصلت بعد دقائق إلى الحجرة، ووقفت أمامه فى نصف الدائرة، ووفقنى الله فى الحوار التالى:
سيادة الرئيس، ليس هذا موقفنا من معاهدة السلام، فقد استُفتى عليها الشعب المصرى ووافق بأغلبية كاسحة.. لكن أعذرنى يا سيادة الرئيس، بيننا وبين اليهود بحر من العداء، عمره أكتر من ألفى عام، عندما كنت طفلاً وقرأت القرآن، وكنت طالباً فى الطب أثناء معركة فلسطين الأولى، التى شاركتم سيادتكم فيها، وكنت أحفظ ما جاء فى القرآن على أنك ستجد أشد أهل الكتاب عداوة للمسلمين هم اليهود.. وكذلك قرأت وصف القرآن لليهود، والذى لا يشرّف، ولا بد لأن آخذ منهم موقفاً يستريح إليه ضميرى وعقلى.
بينما هذا البحر من العداوة وأنتم سيادة الرئيس وفى موقعك الكبير والمهم قادر على أن تغير هذا البحر بخطوة واحدة، وهى زيارة القدس، لكننا يا سيادة الرئيس غير قادرين على ذلك، ولم نرَ من هؤلاء الكارهين لنا أى عمل أو إجراء يدل على رغبتهم فى سلام شامل، أو حل المشكلة الفلسطينية، التى هى أساس العدوان والكراهية وعدم الثقة.
سيادة الرئيس التطبيع مع الجانب الإسرائيلى سيكون على حساب مصلحة مصر، ومصلحة مهنة الطب والأطباء، فلا يوجد لديهم سحر، أو قدرة كبيرة فى أى فرع من فروع الطب نجيده نحن ونحصل عليه، وقامت السيدة حرمكم عند زيارتها إسرائيل بزيارة مركز للأشعة المقطعية، باعتباره أحدث إنجازات الطب، وقبل ذلك بثلاثة أشهر افتتحت قسم الأشعة المقطعية قى قصر العينى.
سيادة الرئيس، لدى أكثر من سبعة آلاف طبيب يعملون فى الخليج والسعودية وليبيا ومهددون بإنهاء عقودهم لو قامت نقابتهم المحترمة بالتطبيع مع العدو الإسرائيلى، وأنا أرغب فى أن يصل العدد إلى ضعف ذلك، حيث إن لدينا بوادر للبطالة بين الأطباء.
انتهيت من الحديث، ولم يرد الرئيس السادات، لكنه تحرك إلى الخارج.
أُصبت بالإحباط، فكنت أريد أن أسمع هل أحسنت أم أنه غير موافق على شرحى أمامه، عند خروجه، لحقت به وسرت إلى جانبه، فمد يده وأمسك بيدى، وشعرت بالدفء، وقلت له سيادة الرئيس أرسلت لك عدة طلبات لحضور عيد الطبيب فى 18 مارس، وكان الرد سلبياً دائماً.. فهل تريد معاقبتى؟
السادات: هل تريدنى أن أحضر؟
أنتم سيادتكم وعدتمونى بأنكم ستحضرون كل احتفال، وهناك أطباء فى نهاية مشوار عملهم وحياتهم، وفى انتظار أن يصافحوك ويكرموا بواسطتك.
السادات لرئيس الحرس: سأذهب للأطباء فى 18 مارس..
يا فرحتى، جريت على مكتب رئيس الديوان، سحبت منه قائمة المكرّمين، ودعوت مجلس النقابة فى اجتماع عاجل، وأضفت إلى المكرمين ضعفهم، وكان احتفالاً للتكريم واجتماعاً علمياً شهدته سيدة مصر الأولى.
رحم الله «السادات»، كان قائداً فذاً وحزنت عليه حزناً شديداً، خصوصاً عندما أخبرتنى سيدة مصر الأولى أن السيد الصحفى الذى خسر قضية التطبيع حاول إقناع «السادات» بأن يضمّنى إلى المعتقلين فى قائمة سبتمبر، باعتبارى مقاوماً للعلاقات مع إسرائيل، لكن «السادات» رحمه الله، رفض، ولنا فى الحديث بقية..