وحين اكتمل، استكثرت أن أبتذله فى صحافة لا تعرف الفرق بين «آهة العشق» و«آهة الألم»:
هذا الصوت كان دائماً ثالث اثنين: أنا والبنت التى تحبنى. نتقاسم اللقمة، وتبادلنى كبتاً بكبت. نتوه عامدَين فى شوارع العاصمة. لا مهر ولا شبكة. لا إرث ولا أفق. لا أرض ولا سقف. نحن فقط، وبلسان واحد:
[قبل ما تحلم فوق
احلم وانت فايق
قبل ما تطلع فوق
انزل للحقايق].
هذا الصوت. هذا النوع من الغناء. هذا الجسم الممصوص، الداكن كلون الطين. هذا الشعر «الهايش» كابتهاج النجوع والكفور بالموت. هاتان العينان اللتان تلمعان كحجرين كريمين. هذا ما كنت أحتاج إليه دوماً لألتهم العاصمة رصيفاً فشارعاً فجسراً، وأحارب طواحين هواء:
[بلاد ما اعرفش ناسها
ولا عارفانى بيبانها
ماليش شبر ف أساسها
ولا طوبة ف حيطانها
وخطاويا غريبة].
هذا الصوت يعرفنى أكثر مما أعرف نفسى. ألاحقه أينما ذهب. لكنه يُبطِّن القلب الممتلئ يقيناً بغلالة شك: «ده حزن ولا وتر.. ده قلب ولا حجر.. ده دمع ولا مطر»؟. ويملأ عقلى بالسؤال المستحيل:
[مين اللى بيبيع الضمير
ويشترى بيه الدمار؟].
وبالإجابات القديمة نفسها:
[المهنة بناضل.. بتعلم
تلميذ فى مدرسة شعبية
المدرسة فاتحة على الشارع
والشارع فاتح فى قلبى
وأنا قلبى مساكن شعبية]
هذا الصوت يحرسنى ويؤانسنى منذ أربعين عاماً بالتمام والكمال (مسَّنى لأول مرة فى 1979). يلمع فى ليل الغربة كنجمة حائرة، محيرة. كنصل رقيق ذى حدين، يجرح فى الحزن كما يجرح فى البهجة. أقتبس منه شعاراً أضعه تحت زجاج مكتبى، أو ضوءاً خفيفاً يبدد كآبة الوحدة والألم وانتظار الموت:
[بعد ما لفّ وبعد ما دار.
بعد ما هدّى وبعد ما ثار.
بعد ما داب واشتاق واحتار.
حط الدبلة وحط الساعة.
حط سجايره والولاعة.
علق حلمه على الشماعة.
شد لحاف الشتا على جسمه.
دحرج حلمه وقلمه واسمه.
دارى عيون عايزين يبتسموا.
اللى قضى العمر هزار.
واللى قضى العمر بجد.