فى 18 مارس 1979 احتفلت نقابة الأطباء بعيد الطبيب الأول، وكانت المناسبة احتفال كلية طب قصر العينى بإنشاء أول كلية طب فى أفريقيا والشرق الأوسط فى 17 مارس 1826 فى مدرسة أبى زعبل الطبية، ثم انتقلت بعد عام إلى قصر العينى، وهذا المبنى القديم الذى لا تزال تشغله كلية طب قصر العينى تم بناؤه وإنشاء مبنى قصر العينى الجديد وإنشاء الفرنسى بدعم من الحكومة الفرنسية، ولقد اعتبرت نقابة الأطباء هذا اليوم مناسبة للاحتفال بعيد الأطباء وإظهار جهدهم فى رعاية صحة المواطنين وحاجتهم إلى الدعم وإعطاء الصحة الأولوية فى الميزانية، وكذلك للاحتفال والاحتفاء بأصحاب القلوب الكبيرة، الذين يتبرّعون بإنشاء المستشفيات والوحدات الطبية وتحديث الخدمات الطبية.
حضر «السادات» أول احتفال فى عام 79، قبل أسبوع من توقيع معاهدة السلام، وكان متردداً فى حضور هذا الاحتفال، مما أعطى الفرصة لبعض فئات اليساريين فى نقابة الأطباء لعدم الاستقبال اللائق بالسادات، لكن ذلك تبدل عند حضوره والتفاف الأطباء حوله ومشاعر الترحيب الصادق من شباب الأطباء وقياداتهم، لدرجة أنه بعد خطاب الافتتاح من وزير الصحة الدكتور إبراهيم بدران (المغفور له)، وخطاب نقيب الأطباء حمدى السيد، قام السادات وألقى خطاباً جامعاً ذكر فيه فضل الأطباء على مصر، وتم الإنعام بقلادة النيل على اسمى المغفور لهما نجيب باشا محفوظ، أستاذ النساء والتوليد، والدكتور على إبراهيم باشا منشئ الجمعية الطبية، والذى استخلصها من الأطباء الأجانب، وكذلك منشئ نقابة الأطباء، وأشرف على بناء قصر العينى الجديد، بالإضافة إلى المبنى القديم، ورفع شأن الهيئة محلياً ودولياً، وكانت النقابة قد نسيت تقديم الاسمين اللامعين فى تاريخ المهنة للتكريم، فى أول احتفال بعيد الطبيب.
شكر السيد رئيس الجمهورية نقابة الأطباء على حُسن الاستقبال ومعرض الخدمات الطبية للقوات المسلحة، والاحتفال بشهداء الأمة من الأطباء، وقال إنه من أجل ذلك سيدعو نقيب الأطباء لمرافقته عند السفر إلى الولايات المتحدة، لتوقيع معاهدة السلام فى 24 مارس.
نحن نحب «السادات» ولا يمكن أن ننسى له معركة أكتوبر والإنجاز العظيم الذى تحقق، لكننا فى بعض الأحيان قد لا نوافق على بعض الخطوات التى اتخذها فى سبيل الحصول على السلام، ومنها زيارة القدس، واعتبرنا معاهدة السلام مع خصم لا يؤمن به، ولم تتغير أحلامه وآماله فى الاستيلاء على فلسطين بالكامل، وتهجير الفلسطينيين إلى موقع آخر، وسفرى إلى واشنطن لم أكن مرحباً به، لكن مجلس النقابة اتخذ قراراً بضرورة سفرى، حتى لا نخسر ما حصلت عليه من حضور عيد الأطباء، واتخاذ قرار تاريخى قاد مسيرة الفئات المتوسطة والنقابات المهنية والكتلة العمالية فى مصر فى مقاطعة التطبيع مع الجانب الإسرائيلى، إلى حين أن يلتزم بالدعوة لحل مشكلة الفلسطينيين وعودتهم إلى أرضهم المحتلة ودولتهم وعاصمتها القدس القديمة، وكذلك حقوق اللاجئين، ونشرنا هذا القرار فى «الأهرام» قبل موعد توقيع المعاهدة بثلاثة أيام، ومن حسن الحظ أن تبعتنا بعد ثلاثة أشهر نقابة الصحفيين، ثم نقابة المحامين، ثم باقى النقابات المهنية والتى تبلغ نحو عشرة ملايين عضو.
وحاولت الدولة الضغط علينا، لكننا أفلتنا من هذا الضغط، وقبلت الدولة -وقتها- هذا الوضع، حتى إنه عندما كان يصل خطاب دعوة من الجانب الإسرائيلى إلى أحد القيادات الطبية لحضور مؤتمر، ترسله لنا المخابرات العامة قبل وصوله إلى صاحب الدعوة، حتى نبلغه قرار النقابة، والعرض على لجنة التأديب إذا خالف هذا التوجيه.
فى هذا المقال لا أريد أن أذكر تفاصيل الرحلة، لكنى أعرض منظراً واحداً أثر فى تأثيراً شديداً، وهو أن «السادات» فى الخطاب الذى قدمه قبل توقيع المعاهدة كان مليئاً بالحكم والقيم الإسلامية التى تدعو إلى السلام وإعطاء الحقوق للمظلومين، بينما كان خطاب «بيجن» مليئاً بالادعاءات، وأن الأرض المقدسة «فلسطين» هى أرض اليهود، ولم يذكر كلمة واحدة عن حقوق الفلسطينيين، وهذا سبّب لنا قهراً شديداً وكرهاً لهذه الشخصية المتهالكة.
وبعد الظهر فى حفل العشاء، الذى أقيم فى حديقة البيت الأبيض بعدما نجحنا فى طرد الزميل الإسرائيلى من السفارة، حيث كان من المفروض أن يجالسنا ويلتقى بنا طول فترة العشاء، فإننى نجحت فى طرده، خصوصاً عندما سألنى عن موقف المثقفين من المعاهدة، وذكرت له أنه بعد خطبة بيجن اليوم لا أمل كبيراً لدى أنه سيلتزم بما فى بنود المعاهدة، وعندما وجد عدم الترحيب انتقل إلى مائدة مجاورة بها أحد أصدقائه من اليهود، وتركنى أنا والأستاذ محمد عبدالجواد نتبادل الحديث دون أى قيود، وبلغتنا المصرية العربية الحبيبة، وقبل نهاية الحفل عرضت على الأستاذ محمد عبدالجواد الانتقال إلى مائدة الرؤساء لنُسلم على الرئيس السادات ونُحييه على خطابه القدير فى حفل العشاء، والذى ردّ فيه على كل ادعاءات بيجن.
عندما لمحنى الرئيس السادات قادماً إلى المائدة التى جلس عليها هو والسيدة الأولى وكارتر وزوجته وبيجن وزوجته، قام وخطا خطوتين إلى الأمام وأخذنى بالحضن ووضع وجهه على جبهتى، وشعرت بالعرق البارد، الذى لا أشعر به إلا فى حالات المرضى المصابين بالصدمة، وأنا على يقين أن «السادات» بذل من جهده ومن عرقه ومن «دمائه» الكثير لكى يتحمل الاجتماع والالتقاء مع شخصية كريهة مثل بيجن، وأن «السادات» فعل ذلك لكى يُرضى ضميره ويُنهى مسلسل الحرب والصراع، ولا يفعل ذلك إلا كبار الشخصيات وأصحاب الرسالات، وبذل من جهده وعرقه الكثير، وكاد قلبى يقف من كثرة التعاطف معه وقربت من مشاعره.
رحمه الله رحمة واسعة..
عندما لمحنى الرئيس السادات قادماً إلى المائدة التى جلس عليها هو والسيدة الأولى وكارتر وزوجته وبيجن وزوجته، قام وخطا خطوتين إلى الأمام وأخذنى بالحضن ووضع وجهه على جبهتى، وشعرت بالعرق البارد، الذى لا أشعر به إلا فى حالات المرضى المصابين بالصدمة، وأنا على يقين أن «السادات» بذل من جهده ومن عرقه ومن «دمائه» الكثير لكى يتحمل الاجتماع والالتقاء مع شخصية كريهة مثل بيجن