أخطر ما يواجه لبنان الآن ليس الأزمة الاقتصادية أو تعثر تشكيل حكومة أو تناقص الدولار، بل أن يعود اللبنانيون إلى طائفيتهم المتجذّرة، وإلى مناطقهم المنغلقة على ذاتها، لنيل الحماية مما قد يحدث، فبعد أربعين يوماً من الاحتجاجات التى غلبت عليها التحرّكات السلمية وقدر محدود من الاشتباكات بين مجموعات من المتظاهرين انتهت فى حينها بعد تدخّل أمنى سريع، تبدو المؤشرات متجهة نحو مزيد من التوتر والاشتباكات بين المجموعات المنتمية إلى حزب الله وحركة أمل، وبين مجموعات المتظاهرين، الذين يرفعون شعار الثورة، ويرون مطالبهم لا تنازل عنها، مقابل شعار الشيعة الذى أطلقه منتسبو حزب الله وحركة أمل، كما حدث صباح الاثنين الماضى، يؤكدون به أن البعد الطائفى هو سيد الموقف بلا منازع.
لقد تمنى وأمل كثيرون فى داخل لبنان وخارجه أن تكون حركة الاحتجاجات التى انطلقت قبل ستة أسابيع هى بداية لتغيير جوهرى فى هيكل السلطة ومعادلات السياسة اللبنانية، تغيير يقود إلى إقصاء الطائفية والمحاصصة الحزبية وتأثيرات المناطقية على الحياة السياسية اللبنانية برمتها، والتى أدت تفاعلاتها عبر سبعة عقود إلى أن يصبح لبنان بلد الأزمات التى لا تتوقف، كل منها يقود إلى أخرى، وكل منها يضيف أسباباً جديدة لتوتر كامن فى النفوس والسلوك، يبحث عن لحظة انفجار لن تبقى مأمناً لأحد.
ويبدو أن وصف حركة الاحتجاج بأنها عابرة للطائفية، وأنها تعبر عن طموحات جيل جديد يريد أن يبرّئ نفسه من سموم الطائفية وكوارثها، ويطمح أن يبنى لبناناً جديداً على قاعدة المواطنة والمساواة، يبدو أنه وصف متسرع إلى حد كبير. ففى الأيام الأولى للاحتجاجات بدت القواسم المشتركة بين اللبنانيين متمثلة فى رفض القرار الخاص بفرض رسوم على استخدام تطبيق «واتس آب» المجانى للاتصالات، وتطورت لاحقاً إلى دعوة الحكومة إلى الاستقالة، ثم ارتفع سقف المطالب إلى المناداة بمحاسبة الفاسدين وتغيير كامل الطبقة السياسية، وتشكيل حكومة جديدة من أناس لم تتلوث ايديهم بأى إثم ولم يتورطوا فى أى فساد، وليسوا تابعين لحزب ومترفعين على انتماءاتهم الطائفية والمناطقية. والمطالب نفسها مشروعة ولا غبار عليها، أما إمكانية تحقيقها فهذا أمر آخر. وهنا يكمن التحدى الأكبر، سواء للمتظاهرين وعموم المحتجين الداعين إلى التغيير، أو لأبناء السلطة وسدنتها من الأحزاب والطوائف المختلفة.
وإذا كان للمتظاهرين من قوة معنوية ومشروعية غير قابلة للنقاش لمطالبهم، فإن الطرف المقابل لديه أيضاً مصادر قوة لا يُستهان بها، فهم المتمرسون فى السلطة ودهاليزها، وهم الذين يعرفون كيف تسير الأمور بمعايير طائفية ومحاصصة حزبية متجذّرة، وهم القادرون على فرض أولويات تتناقض تماماً مع تلك التى يطالب بها المتظاهرون، وهم من يملكون القرار بحكم مواقعهم الدستورية القانونية والسياسية، وأيضاً هم الأكثر دراية بالثغرات الدستورية والقانونية والأكثر حرفية فى توظيفها لصالحهم.
المسافة إذاً متباعدة، وموازين القوى متحولة، ولعل مشهدين من تلك المشاهد الأكثر انتشاراً يلخصان هذه الهوة خير تلخيص، فأحد شباب الحراك يتحدث بلغة رصينة عن تجذّر الطائفية فى النفوس، نتيجة التنشئة الاجتماعية والإعلام والأحزاب وربط فرص العمل بحكم الانتماء إلى هذه الطائفة أو تلك، مشيداً بتجمّعات المحتجين فى الميادين من كل الطوائف، ومع ذلك لا يتوقع أن تختفى تلك المؤثرات الطائفية فى وقت قريب، بل ربما حسب قوله يحتاج لبنان إلى أكثر من عقد كامل قبل أن تختفى آثار الطائفية من نفوس اللبنانيين ومؤسساتهم ودستورهم، بشرط أن يتكاتف الجميع لتغيير أساليب التنشئة والتوجيه حتى يتشكل جيل جديد خالٍ من آثار الطائفية والمناطقية. فى المقابل يظهر أحد الذين قاموا بالاعتداء على المحتجين صباح الاثنين الماضى بعصا غليظة، رافعاً صوته عالياً ليقول إن هؤلاء المحتجين يستحقون العقاب والضرب، لقد أهانوا قائدنا، ولن نسكت على تلك الإهانة للسيد برى، ثم يتلعثم ويسانده جمع معه ليرفعوا صوتهم مرددين «شيعة.. شيعة».
المشهدان يجسّدان حجم التباعد بين المتطلعين إلى لبنان جديد، وهم يدركون الصعوبات والعقبات، وهؤلاء الذين ينظرون إلى كل شىء من منظور التبعية للطائفة وزعيمها، وحين لا يستطيعون الرد المنطقى وطرح الأمور بعقلانية يرفعون العصى الغليظة باعتبارها عنصر القوة المادى الوحيد الذى يملكونه. هذه البيئة الناتجة عن سنوات من توظيف الطائفية لتسيير الحياة اليومية وتقسيم الغنائم الحكومية، هى نفسها التى تفسر لماذا تبدو البدائل الخاصة بتشكيل حكومة جديدة لا تعتمد الحصص الطائفية هى المستحيل بذاته.
بدائل الحكومة تبدأ من حكومة تكنوقراط يريدها «الحريرى» إذا قبل تكليفاً جديداً، بعيدة عن المحاصصة، وله اليد العليا فى تشكيلها، لعل المجتمع الدولى يحوّل وعوده بالمساندة المالية إلى أمر واقع، يقابلها خيار أنصار الحكومة المختلطة بين بعض التكنوقراط وكثير من السياسيين الحزبيين، وهم تحديداً التيار الوطنى وحزب الله وحركة أمل، معتبرين أن خيار حكومة تكنوقراط وحسب هو أمر غير واقعى، ولن يمر أبداً، ووجود السياسيين فى الحكومة الجديدة يعنى لهم بقاء مصادر قوتهم فى البناء الحكومى داخلياً وخارجياً، وأيضاً لتقييد حرية الحركة لرئيس الحكومة، سواء كان «الحريرى» أو غيره. وفى السياق ذاته يبدو اختيار رئيس الحكومة معضلة فى حد ذاته، فإذا كان «الحريرى» مرة أخرى وفق أى من الصيغتين فلن يجد الدعم المناسب من حركة الشارع، وإن كان شخصاً غيره فمن هو الذى يتحمل رئاسة حكومة يدرك أنها تواجه حملاً ثقيلاً وبلا أى سند من الناس، ومقيدة بسطوة هذا الحزب أو ذلك. وفى كل الأحوال تبدو مطالب المحتجين والمتظاهرين الراغبين فى طبقة سياسية جديدة تضفى عليها الشرعية الدستورية الطبقة الحالية المرفوضة مسألة مستحيلة تماماً.
حين تنسد كل الآفاق وكل الخيارات يبدو اللعب على عامل الوقت أمراً مطروحاً بقوة لعل التعب يصيب هؤلاء الذين يفترشون الشارع ويصرون على التغيير الجذرى، ومن ثم يعودون إلى بيوتهم يحملون مشاعر الغضب والإحباط وقلة الحيلة. لكنه عامل غير مضمون، فهؤلاء ليس لديهم ما يخسرونه إذا ظل البقاء فى الشارع وسيلة التغيير الوحيدة أمامهم، أما الرافضون للتغيير فعامل القوة المادية بأيديهم، ويمكنهم أن يفجّروا الوضع برمته عن طريق العنف الذى قد يبدأ صبيانياً، كما حدث قبل يومين، لكنه قابل للتطور أن يكون حزبياً وطائفياً فى آن واحد. وهنا تبدو الخطورة الحقيقية لهذه الحالة من الجمود السياسى، إذ تفتح الباب أمام جولة حرب أهلية طاحنة ندعو الله ألا يقدم عليها أحد.