بالفيديو.. تصدرت قصتها "فيس بوك".."الوطن"في دار إيواء"ماما ناهد": مسامحة ولادي
حالة ماما ناهد
على جانب من الرصيف تفترش الأرض في سكون تام، كلما مر عليها أحدهم وجد عندها بضاعة بسيطة تكتسب منها ما يكفيها في يومها تبيع المناديل أحيانا و"الحظاظات" وعرائس للأطفال أحيانا أخرى، تصنعهم بيديها بمهارة اكتسبتها بالوقت رغم معاناتها مع الشارع، التي خرجت إليه بلا عودة قبل 18 عاما، ومنذ ذلك الحين باتت أحلامها تتمثل في وجبة ساخنة تواجه بها برودة الجو في ليلة شتاء قارسة، ورؤية أولادها وأحفادها أمنية بعيدة المنال، وزيارة مسجد الرسول أعظم ما يجول في صدرها.
هكذا كانت تعيش، قبل يومين فقط، السيدة "ناهد" الشهيرة بـ"ماما ناهد" التي ظهرت في المنشور المتداول بشكل واسع على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، حياتها اليومية، قبل استجابة وزارة التضامن ومحافظ القاهرة لحالتها وإيداعها في دار "عقيلة السماع" بحلوان، تواجه أشكال شتى من المضايقات التي تنجو منها كل مرة بأعجوبة، انضمت إلى مجتمع المشردين منذ 18 عاما بعد خلافات شديدة أجبرتها على الانفصال عن زوجها والهرب من جحيم البيت إلى جحيم أكبر لم تتخيل تفاصيله إلا بعد أن عايشته بنفسها، فحسب تعبيرها، اتخذت من رصيف الشارع مقرا لإقامتها، يستضيفها أحد أفراد العائلة تارة ويفرون من سوء معاملتهم بعدها بوقت قليل.
ناهد خرجت إلى الشارع منذ 18 عاما بعد انفصالها عن زوجها وحرمانها من أبنائها
القصة بدأت بمنشور لأحد الشباب يناشد المسؤولين بإنقاذ السيدة المشردة فوق أحد الأرصفة بالقرب من كوبري بولاق أبو العلا، وفي غضون ساعات قليلة تصدرت قصة "ناهد" كلمات البحث في مواقع التواصل الاجتماعي، و وصل صداها إلى فرق التدخل السريع بوزارة التضامن الاجتماعي، التي تحركت على الفور إلى أرض الواقع حيث تقيم السيدة الخمسينية، ملابسها متسخة وجسدها تنبعث منه رائحة كريهة، لم يكن معها سوى بطاقة شخصية وبطاقة تموينية وبطاقة الإعاقة، وحسب رواية محمد فكري، عضو فرق التدخل السريع بوزارة التضامن، لـ"الوطن" تم نقلها لدار عقيلة السماع لرعاية المشردين، أقدم دار إيواء في مصر، بعد موافقتها ثم تم التواصل مع إدارة بولاق الاجتماعية لإعادة معاشها الموقوف.
بابتسامة لم تفارق وجهها طوال الوقت، استقبلت "ماما ناهد"، "الوطن" وهي جالسة فوق سريرها الذي تلازمه طوال الوقت في دار الإيواء التي انتقلت إليها، ملامح وجهها وهيئتها اختلفت كثيرًا عما كانت عليه في الصور المتداولة لها على "فيس بوك"، وبعد دقائق قليلة، بدأت تروي رحلتها مع الشارع من اليوم الذي خرجت فيه إليه لأول مرة، بعد خلافات كبيرة أدت لانفصالها عن زوجها، وحسب روايتها، اضطرت إلى ذلك رغما عنها، "الإنسان تقيل، ومفيش حد من أهلي كان عايز يستضيفني"، إلى جانب ما رآته من معاملة سيئة أثناء إقامتها في منزل أحد أقاربها، "بعاني من تبول لا إرادي بسبب السكر، وبنت عمي كانت بتدلق عليا مياه ساقعة عشان تعاقبني فهربت من البيت للشارع".
بين رصيف الشارع واستضافتها في أحد بيوت العائلة، ظلت "ماما ناهد" تتأرجح سنوات طويلة من عمرها، حُرمت خلالها من رؤية أبنائها الثلاثة بعد دعوى قضائية رفعها ضدها زوجها، الذي تزوجته في عمر الـ17 عاما، وفقدت ساقيها، حيث بُترت إحداهما بسبب حادث والآخرى بمضاعفات مرض السكر، ولم تعد بعدها قادرة على الحركة إلا زحفًا.
ناهد: عمري ما مديت إيدي لحد في الشارع ومسامحة ولادي
السيدة البالغة من العمر 55 عاما، قالت إنها لم تتسول يوما طوال حياتها بين سكن الشارع، فبحسب وصفها، تجيد صناعة عرائس الأطفال والإكسسوارات البسيطة "الحظاظات"، وامتهنت بيع المناديل سنوات طويلة، لم تر فيها أبناءها إلا مرات قليلة، "قعدت فترة مع بنتي وجوزها بس ظروفهم صعبة والإنسان تقيل برضو، رجعت تاني للشارع"، بحسب تعبيرها.
شعور الرضا بقضاء الله لم يفارق نفس "ناهد"، لم تترك صلاة واحدة طوال فترة حياتها في الشارع، رغم إعاقتها، السبحة لم تغادر يدها، تجد في ذكر الله وقراءة القرآن راحة وسكينة، وسط حديثها ذرفت عنياها دمعًا قائلة: "الدنيا جت عليا، شوفت حاجات صعبة كتير بس مفيش مرة فوضت أمري لله إلا وجابلي حقي من اللي ظلموني".
لم تحمل "ماما ناهد" مثقال ذرة من الغضب في قلبها تجاه أبنائها الثلاثة رغم تركهم لها في الشارع: "مسامحةـ وبقول عندهم حياتهم وظروفهم الله يعينهم"، فكلما حاولت ابنتها الكبرى استضافتها في بيتها مع زوجها لم تجد راحتها، لأنها وبحسب تعبيرها، "ظروفهم صعبة واختارت أرجع الشارع تاني".
ناهد: الكتكوت الذي ظهر معايا في الصور كنت بتونس بيه وببيعهم عشان أكسب منهم
سر الكتكوت الصغير الذي ظهر في الصور المتداولة لـ"ماما ناهد"، حيث كانت تحمله في قبضة يدها وبجوارها على الرصيف صندوق به عدد من الكتاكيت، كشفته خلال زيارة "الوطن" لها، فهي اعتادت امتهان أي مهنة تدر عليها دخلا ولو قليلا، ولجأت إلى شراء الكتاكيت من أحد المارة يوما ما لبيعها والإنفاق على نفسها من عائدها، إلى جانب شعورها بـ"الونس" في صحبتهم، "بربيهم وبحبهم وبكسب منهم".
نظرات المارة وهمسات أفوافهم، أصعب ما عانته"ناهد" في سنوات حياتها بالشارع، جميعهم يراها شخص سيئ لا يستحق الحياة، وآخرون يتجنبون المرور بجوارها خوفا منها، "أوحش حاجة تحس إنك مش بني أدم وسط الناس".
ناهد: الدار بيعاملوني أحسن معاملة ونفسي في تليفون محمول عشان أسمع صوت ولادي
"الناس هنا بيعاملوني أحسن معاملة وباكل وبشرب وبلبس لبس نضيف"، هكذا تحيا "ناهد" حياتها الجديدة وسط سكان الدار والمسؤولين به، اعتبرته بداية لحياة كريمة من حيث المعاملة والرعاية الجيدة وبشاشة الوجه التي يتميز بها العاملون في المكان.
أحلام"ناهد" بسيطة لم تتجاوز اقتنائها هاتف محمول لسماع صوت أبنائها وأحفادها من حين لآخر، والحصول على مصحف كبير الخط حتى تتمكن من القراءة بوضوح، اختتمتها بدعاء طويل تمنت فيه زيارة مسجد النبي قريبا.